الجمعة، 5 يونيو 2020

وترجّل الشيخ الطموح بعد ثمانية عقود!

وترجّل الشيخ الطموح بعد ثمانية عقود!

سمعت، بوفاة الشيخ الكريم، والعم المبارك: سليمان طهبوشي..

رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار.

والعم سليمان.. من خيرة الناس: صفاء وصلاحاً، ونقاء وفلاحاً.. عرفته منذ سنوات، وهو يحب الخير والدعوة إلى الله تعالى، ويقدِّم أحياناً لبعض المشايخ، ويعرّف بهم.. إذا أتوا إلى قريته للمحاضرة أو الدرس.

والشيخ سليمان.. رغم كبر سنه، الذي شارف الثمانين أو خنقها، إلا أن فيه روح الشباب، وشجاعة الأبطال، وهمة الكبار.. فهو لا يترك قيام الليل ولا يفتر عنه، ويصوم الإثنين والخميس.
وهو يحب المشي على قدميه، ولو مسافات طويلة، لا يعرف الكسل والملل والعلل -رغم علله المتتالية المتوالية-، بل تراه -تبارك الله- يفري الطريق فرياً، ويخب الأرض خبّاً.

كان مزوراً لأصحابه وأقاربه، لا يتوانى عن زورتهم، أو يتكاسل عن صلتهم.
وأذكر، أنه كان يذهب إلى بيت والدي -حفظه الله في عافية-؛ لزيارته، والتأنس معه، والتحدث إليه!

وكان لا يأتي مدينتي، إلا وزارني -أنا الصغير، الذي بمنزلة أحد أبنائه-، بل ويأتي لي بالهدايا والحدايا.
وإذا جاءني، أعزم عليه، إلا تناول معي الغداء.. فيهاتف أخته الكبرى -حفظها الله-، ويستأذنها!

وإذا جاءني، ولم يجدني؛ فيحرّص على الأولاد، أن يخبروني!
وإذا وجدني نائماً؛ قال لهم: أيقظوه، قولوا له: عمك سليمان؟ فأهبّ من نومي -والله- فرحاً مسرورا!

وأنا رجل، أحب الجلوس مع كبار السن، لا سيما، إذا كانوا ذوي عقل رجيح، ولسان فصيح، وتجارب حياتية..
وحقيقة، إن الجلوس معهم؛ يزيد عمرك، ويعمر قلبك، ويبني حياتك، ويبهج لبك؛ لأن الطيش قد غادرهم، والنزق قد فارقهم، فلا تجد عندهم أثرة أو أنانية، بل يمحضونك النصح، ويشيرون عليك للأرشد، دون غلاظة أو فظاظة، بل ينزلونك منزلة أولادهم، وما تظنون في أب مع ابنه؟!
فالزموا الكبار، تكونوا كبارا!


وقد وعدته كثيراً.. أن أزوره إلى بيته، ولكن:
كيف الطريق، ودون ذلك أهوالُ؟!
فاللهم غفراً وعذراً..

كان -رحمه الله- متزوجاً باثنتين، وأنجب منهما ذراري وذرية، وكان يود أن يثلث بثالثة، ولكن، له فيها شرائط معيية على مثله، منها: أن تكون حافظة للقرآن الكريم، والبخاري ومسلم، إلى ثالث ورابع!
بل، وينظم في عروسه الغائبة الحاضرة، وفي أوصافها.. الأشعار المشعورة، ويضحكنا، ويؤنس السامعين، وندعوا له بالتوفيق والتحقيق.

ولم يكن، من ذوي العبث العابث، والعهد الناكث، الذين يتزوجون شهوة ونزوة فقط، دون مراعاة مقاصد الزواج، أو جبر الخواطر -كفى الله المسلمات شرهم، ورد كيدهم في نحرهم، وكسرت خواطرهم، وعسفت مخاطرهم-.

وكان صاحب دعابة محببة، ونكتة مضحكة، بدون شطط في القول، أو حطط في الفعل، وإذا انتهى من حكاية نكتة، أتبعها، بالاستغفار، وهو كثير الذكر والاستغفار والابتهال!

وقد كان في شبابه.. جواب آفاق، وعَشاق أسفار، فقد سافر إلى بلدان كثيرة؛ ابتغاء الرزق والبلهنية!


وأنا في تحسر وتكدر وتعكر وتصدر؛ لفراقه، دون إكحال عيني برؤية وجهه الجميل، ولحيته الحمراء الكثيفة، وقامته المعتدلة، ولكن: إنها الحرب الهوجاء، التي تفرق وتشت -أنهاها الله-!
كلما قلنا: عساها تنتهي *** قالت: الأيام: هذا مبتداها!

لكنا، نرجوا الله، أن يكون الحال:
وإذا قلنا: عساها تنتحي *** قالت الأيام: هذا منتهاها!

وقبل أشهر.. تاقت روحه؛ لزيارة البيت العتيق، والصلاة في المسجد الحرام، ومشاهدة ذاك الجلال والجمال.. فأزمع الرحيل، رغم عجزه وكبره ومرضه، ولكنه: الحب الذي يقطع كل الأبعاد، ويقرب بين المسافات! فكان له ما أراد، من الزيارة والعمرة والطواف، والتروي بزمزم، فبلّ روحه المتعبة، وبلبل قلبه المثخن بالأمراض!

وكنت على تواصل معه- في سفره وحضره، حتى أعياه المرض الخبيث، والداء الدوي، فصار رهن الفراش، وقيد المكان؛ لمدة لا بأس بها، وكنت أطلب مهاتفته، لكنه لا يقوى على الكلام!

حتى أسلم الروح لباريها، في ليلة وترية من العشر الأخيرة من رمضان، لهذا العام ١٤٤١.

فما نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. 
وأحسن الله عزاءنا، وعزاء أهله وذويه ومحبيه، وأسكنه فسيح الجنان، وعالي الرضوان.

وهذا حال الدنيا: اجتماع وافتراق، وأفراح وأتراح، وحلول وارتحال.
إنا لله وإنا إليه راجعون.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/١٠/١٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق