الاثنين، 22 يونيو 2020

إفادة الداري وإعانة الذاري في ومضات من حياة القاضي محمد بن أحمد الهتاري!

إفادة الداري وإعانة الذاري في ومضات من حياة القاضي محمد بن أحمد الهتاري!


شيخنا ومجيزنا العلامة الشيخ الفقيه الفرضي القاضي محمد بن أحمد بن عبد الخالق سبأ الهتاري.. سمعت عنه من الأستاذ ياسين الهتاري، فتشوفت للقائه، وتشوقت لسماع حديثه (ويا للذاذة حديث العلماء!)

بدأت رحلة البحث عنه، من الحصول على رقم يوصلني إليه، إلى معرفة مكانه، إلى التمكن من إتيان مدينته، إلى الترتيب لزيارته.. وتُجووزت كل هذه الصعاب -والحمد لله-.
وكانت زيارته بدلالة ابنيه: الأستاذ عبد الرقيب، والأستاذ عبد الكريم.

زرته إلى نُزله، في العاصمة صنعاء الشماء، فوجدت شيخاً ربعة من الرجال، وإلى الطول أقرب، أبيض اللون، قد هدته العقود، وآذته السنون، ومع هذا، فقد أبى إلا أن يظل جالساً، طيلة حديثي معه، بل لم يغير جلسته المقرفصة!

وهو شيخ كبير السن، أعمى البصر، صمِم السمع، ولا أظنه يتمكن من الخروج، لكني، وجدته لابساً ثوباً أبيضا، وعمامة بيضاء! مما يدل أنها ليست ملابس التعمل والتخفف، بل تكلف لبس ذلك؛ لاستقبال مَن هو في منزلة أحد أبنائه أو أبناء أبنائه، ولم يعرفه! لكنه الكرم والشمم في آن واحد!

الشيخ -رحمه الله- من أهالي بني هتار، عزلة بني الضبيبي، مديرية الجبين، محافظة ريمة، من بلاد اليمن السعيد.

سألته عن مشايخه ورحلاته وتواليفه، فكان لا يكاد يستذكر إلا نزراً؛ لأنه قد حمل على كاهله، سنين كثيره، فناء بثقلها، إلا أنه كثير الذكر لله عز وجل.
حتى جرى كلام بيني وبين ابنه، عن رحلات والده وتواليفه، فقال: اذكروا الله، واتركوا هذا الكلام!

وكان أحياناً يطيل الصمت عندما أسأله، ثم يقول:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا لأنه يتقلبُ

ومع معونة أولاده، فقد خرجت بهذه الجذاذات:
ولد شيخنا، سنة ١٣٤٣، وقال لي: قرأت القرآن القرآن، عند والدي، وهو الشيخ الحافظ أحمد بن عبد الخالق.

وفي السادسة عشرة من عمره، توجه إلى مدينة زبيد؛ لطلب العلم، وهو دون العشرين، وقد كان متزوجاً، قال: لأن الزواج عندنا يكون مبكرا.

فدرس فيها على يد عدد من العلماء، ومنهم: العلامة محمد بن سليمان الأهدل، والعلامة محمد بن علي البطاح الأهدل، والعلامة أحمد داوود البطاح الأهدل، والعلامة محمد بن أحمد السالمي، والعلامة محمد بن أحمد الحنفي، والعلامة عبد الله بن زيد المعزبي، والعلامة أحمد الخليل، والعلامة حسين بن محمد الوصابي، والعلامة محمد بن عمر الأهدل وآخرون.

وسألته عن العلامة عبد الخالق بن محمد علي سبأ؟ فقال: كان من العلماء، ولكنه لم يقرأ عليه، فقد أدركه وهو صغير السن.

وذهب إلى المراوعة أيضاً، -وهي مدينة علم وفقه-، ولكنه لم يدرس في غير زبيد، فلعله ذهب إليها للزيارة أو المعرفة.

وقد درس على أيدي هؤلاء العلماء، كثيراً من متون العلم وفنونه، ومنها: "المنهاج" للنووي، و"السراج الوهاج" و"الكواكب الدرية شرح متممة الآجرومية" و"النفحة العطرية شرح الآجرومية" كلاهما للعلامة محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، و"كاشفة السجا" و"مواهب الصمد" و"سفينة النجاة" و"الزبد" و"أبي شجاع" و"الآجرومية" وغيرها من متون العلم ومتينه، في الفقه، والفرائض، والحساب، والنحو، والصرف، والبديع، والمنطق.
وكل ذلك.. بعد درس تفسير القرآن العظيم وقراءته.

ولم يترك أولاده دون تعليم أو عناية، بل حرص على تعليمهم وتهذيبهم، فقد درّس أبناءه، في "الآجرومية"، و"شرح القاسمي"، وبعض "المنهاج" ومقتطفات من "الكواكب الدرية"، وبعضاً من "الأم" للشافعي، و"الرحبية"، و"سفينة النجاة"، وهذا صنيع فالح، على خلاف كثير من الأشياخ، يهتمون بأنفسهم طيلة سنين، ثم يتفرغون لتدريس غيرهم، أو الاشتغال بالتأليف، أو أعمال أخرى، فيهملون من ولاهم الله أمرهم، وفي الحديث: (كفى بالمرء إثماً، أن يضيّع من يعول) رواه أبو داوود، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وفقد بصره، بأخرة، فقد فقده سنة ١٤٣٦، أي: قبل وفاته بستة عشر سنة تقريبا.

وعندما ذهب إلى زبيد، لطلب العلم.. رغّب وشجع، إثني عشر طالباً، حتى أقنعهم بالذهاب إليها، فدرسوا العلم، وترووا من المعرفة، وصار منهم، العالم والشيخ والأستاذ والدكتور والأمين.

وبعد أن نهل وعل، من معين أولئك الأعلام.. أجازوه بما رووا ورأوا.

ثم زاول بعد ذلك، شرف القضاء، فكان مساعداً للقاضي علي بن عبد الله الهتاري، الذي كان حاكم مديرية السخنة قبل قيام الجمهورية، أيام الإمام أحمد حميد الدين.

وعمل شيخنا، كثيراً في مجال الإفتاء، وحل قضايا ومشاكل مجتمعية، وكان مرجعاً للفتاوي الشرعية في كافة أنحاء محافظة ريمة، ولم يكن يحب هذا اللقب؛ تواضعاً وزهداً.

وكان -رحمه الله- يعمل على إظهار الحق بين المتخاصمين، فإذا حُكم على شخص، وهو صاحب الحق، يأت إليه المحكوم عليه؛ لتحرير المرافعات والطعون في الأحكام!
من ذلك: أنه مرة طعن في أسباب وحيثيات حكم وأبطله؛ مستدلاً بتناقضه من حيث المعاني والبديع والنحو!

وكان المتخاصمون، يستخدمون
مصطلحات، بلهجة بلدتهم، في الأعبوس، قضاء الحجرية، لا يعرفها، فكان يرجع لكتاب "المنجد"؛ لمعرفة معانيها واشتقاقاتها ومفرداتها.

ويعدّ المفتي الفعلي لمحافظة ريمة، وقد رشح رسمياً لذلك، ولكن قامت ثورة ٢٠١١، فلم يتم الترسيم!

وقد زكاه، وشهد له.. ما يزيد على خمسة عشر رئيس محكمة، المتعاقبين في محكمة الجبين الابتدائية، ومعظم محاكم المحافظة، إضافة إلى تزكيات عدد من مشايخ العلم، وذوي الوجاهة، والشخصيات الاجتماعية، ومسئولي السلطتين: المحلية، والتنفيذية، لفترات متعاقبة في محافظة ريمة.

ولم يشغله عمله، عن المشاركة في التأليف، وأبى إلا أن يختلس ساعات من يومه وليلته، يكرع من فيض علمه، على ورقه وبياضه.
وقد كتب عدداً من الكتب والرسائل الطويلة والقصيرة في عدد من الفنون، ومنها:
-نيل الوطر في أحكام متعلقة بالمبتدأ والخبر" وهي منظومة شعرية، ومنها:
يجب حذف المبتدأ في أربع * مواضع فهاكها واستمع
أولها: النعت له إن قد قطع * لمدح أو ذم فراع ما وضع
والثاني: إن يك الخبر قد خصصا * بنعم أو بئس فراجع وافحصا
وثالث: جاء صحيحاً للقسم * كقولك: لأفعلن مغتنم
ورابع: كون الخبر جا مصدرا * نائب مناب الفعل فافهم واشكرا
إلى آخرها.

-تحذير القسام من العمل في الوصية خلاف شريعة الإسلام، كتاب في كيفية العمل بالوصية.

-الدر المنثور فيما يبقى بعد تقسيم التركة من الكسور، وهو في كيفية العمل بالكسور عند تقسيم التركة.

-زاد المحتاط إلى طريق الثمرة من القيراط، وسماه أيضاً: الرق المنشور في معرفة القيراط والتركة والكسور.

وغيرها من التواليف، التي لا زالت في مكنونها محتجبة، تنتظر من يتقدم إليها؛ ليميط عنها اللثام!

ويعتبر شيخنا.. من مؤسسي التعليم النظامي في اليمن، فقد كان مديراً لمدرسة عتيقة، اسمها "النور"، وقد كان مدرسوها، يتلقون مرتباتهم
عن طريق جمعية في عدن
ممونة من الاحتلال البريطاني.

وكانت له -رحمه الله- مقترحات، فمن تلك المقترحات التي اقترحها: أن يحفظ الطلاب قصيدة "وصية الإخوان" وتكرر في طابور الصباح،
وعمم هذا المقترح ونُفذ.
وأولها:

أوصيكم يا معشر الإخوان *** عليكم بطاعة الديانِ
إياكم أن تهملوا دروسكم *** فتندموا يوماً على ما فاتكم

ثم ترك التعليم؛ بسبب أن أكبر أولاده عبد اللطيف، -الذي كان سبق وأن عقد له عقد الزواج-، توفي، ووصلت إليه التعزية، فطلب الإذن من مسؤوليه؛ ليحضره ويشهده؟ فكان الرفض؛ بحجة قرب الاختبارات، فانزعج، وقدم استقالته، وعامل على إخلاء طرف في غضون أسبوعين تقريباً، وترك العمل.

يقول ابنه الأستاذ عبد الرقيب: وجدت دفتراً، بخط يده، فيه محاضر اجتماعات بالمدرسين، والمدراء، يحدد فيها أولاً، المواضيع المراد مناقشتها، ثم ما توصلوا إليه من المقترحات والتوصيات، فجاءت متوافقة مع الطريقة الحديثة لكتابة التقارير.

وكان أولاً، مديراً للمدرسة، ثم ترقى بعدها، ليكون مدير مدارس قضاء الحجرية.
وكان يتحدث عن تاجر هناك محب للخير، اسمه عبد الجبار راشد، تعاون مع المدرسة كثيراً، وسهل لهم بعض الاحتياجات المادية.

ولكون التاجر وجيهاً، فقداستعان  بالشيخ هناك؛ للفصل في الخصومات، وتدوين وتحرير الأحكام الشرعية.

وشيخنا، كثير التواضع، هاضم نفسه.. فقد كان يذكر بعض تلاميذه، ويقول عنهم: هما من مشايخي؛ لأنهم فاقوا شيخهم!

هذه بعض المقتطفات والمقطوفات عن حياة شيخنا العالم -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار- حرصت غاية على معرفة كنهها، وكشف جوهرها، أرجو أن أكون وفقت إلى جلو علم من أعلام اليمن، ومسح القتمة عن سيرته ومسيرته.
وسبحانك الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٣/١٤
١٤٤١/١٠/٢١


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق