سَيْر الدُّلْجة في عشر ذي الحجة!
الأيام العشر الأولى، من شهر ذي الحجة.. أيام عظيمة معظمة، أقسم الله بها في كتابه الكريم، والإقسام بالشيء، دليل تعظيمه وتفخيمه.
قال تعالى: "والفجر وليالٍ عشر".
قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة.
قال ابن كثير: "وهو الصحيح"
(تفسير ابن كثير: ٨/ ٤١٣)
بل ذهب جمهور أهل العلم، إلى ذلك، بل نقل ابن جرير، الإجماع عليه، فقال : "هي ليالي عشر ذي الحجة؛ لإجماع الحُجة من أهل التأويل عليه".
(تفسير ابن جرير: ٧/ ٥١٤)
تنبيه: أطلق على الأيام (ليالي)؛ لأن له وجهاً في اللغة العربية، فقد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي.
وكان من كلام السلف: (صمنا خمساً) يريدون: الليالي.
ينظر: (أحكام القرآن: ٤/ ٣٣٤) لابن العربي المالكي، و(لطائف المعارف: ٤٧٠)
والعمل في هذه الأيام.. محبوب إلى الله سبحانه وتعالى، مرغب فيه.. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح، فيهن أحب إلى الله، من هذه الأيام العشر. فقالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)
رواه البخاري.
وقد كان السلف رضوان الله عليهم.. يجتهدون اجتهاداً عظيماً في هذه العشر.. حتى أن سعيد بن جبير: يبلغ به اجتهاده، حتى ما يكاد يقدر.
أي: أنه يتكلف العبادة فيها؛ خشية الفوات!
وإنما بالغوا في اجتهادها؛ لعلمهم: أن العمل في هذه الأيام، أحب إلى الله من العمل في غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة، ليلاً ونهاراً، أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره، تعدل الجهاد؛ للأخبار الصحيحة المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره".
(الفتاوى الكبرى: ٥/ ٣٤٢)
والأعمال الصالحة، في هذه العشر، عامة مطلقة، في شتى الأنحاء والأشياء، ولكن جاء تخصيص بعضها.
فمن ذلك:
-الصيام، وقد اختلف العلماء في استحباب صيامها.. ففي سنن أبي داود، والنسائي وغيرهما، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر).
هذا، ولكن جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صائماً في العشر قط).
وفي رواية: (لم يصم العشر).
رواه مسلم.
فعلى من قال بصحتهما.. يترجح الجمع بينهما، وهو أن حديث عائشة، يحمل على أنها لم تره هي صائماً، أو لم يصمه لعارض مرض أو سفر.
ويحمل حديث هنيدة، على أنه عليه الصلاة والسلام، صامها، ولم تعلم بذلك عائشة، وهذا إثبات "والمثبت مقدم على النافي"؛ لأن عنده زيادة علم.
قال النووي: "قال العلماء: هذا الحديث، مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً، لا سيما التاسع منها ... فيتأول قولها: (لم يصم العشر)، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر"
(شرح صحيح مسلم: ٤/ ٣٢٨)
وعلى من قال بضعف حديث هنيدة.. فيندرج الصيام تحت الأعمال الصالحة؛ إذ هو من أفضل الأعمال، ولا مخرج له من جملة صالح الأعمال.
وعلى فرض عدم صيام الرسول عليه الصلاة والسلام، لها؛ فلا يدل على عدم شرعية صيامها؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام، حثّ على صيام المحرم كاملاً، ولم يصمه صلى الله عليه وسلم.
زد على ذلك: صيام بعض الصحابة لها، كابن عمر، وبعض التابعين كالحسن وغيره، كما في (مصنف عبدالرزاق)
وصرح المالكية والشافعية: بأنه يسن صوم هذه الأيام للحاج أيضاً، واستثنى المالكية من ذلك، صيام يوم التروية للحاج.
فيترجح: أن صيام التسع، سنّة، ولا حجة -حسب علمي- لمن قال بعدم مشروعية صومها، أو ببدعيتها، بل لقد أبعد النجعة.
ومنها: ذكر الله بالتكبير والتهليل ونحوه.
قال تعالى: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات".
والأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة.
وقال تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات".
والأيام المعدودات: هي أيام التشريق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق.. أيام أكل، وشرب، وذكر الله عز وجل).
رواه مسلم.
قال ميمون بن مهران: "أدركت الناس، وإنهم ليكبِّرون في العشر، حتى كنت أُشبِّهُه بالأمواج من كثرتها".
(فتح الباري: ٩/ ٩) لابن رجب.
وقال ابن القيم: "والأفضل في أيام عشر ذي الحجة.. الإكثار من التعبد، لا سيّما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين".
(مدارج السالكين: ١/ ١١٠)
والتكبير: مطلق، ومقيد..
فالمطلق: هو الذي لا يتقيد بوقت أو زمن معين، بل يُسن دائماً دون تحديد أو تعيين أو تخصيص.
فيُستحب التكبير المطلق في عشر ذي الحجة، وسائر أيام التشريق، وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة، إلى آخر يوم من أيام التشريق، وهو الثالث عشر.
والمقيد: وهو المقيد بأدبار الصلوات.
فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.
هذا لغير الحاج.
أما الحاج: فيبدأ التكبير المقيد في حقه، من ظهر يوم النحر.
ويجوز أن يذكر الله بأي صيغة تعظيم، وإن اقتصر على الوارد عن بعض الصحابة، كان أفضل، ومما ورد:
-(الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)
-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)
-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)
-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر كبيرا)
والأمر واسع في هذا؛ لعدم وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد صيغة معينة.
ينظر: (مجموع فتاوى ابن باز: ١٧/ ١٣) و(الشرح الممتع: ٥/ ٢٢٠)
ومنها: الحج.
فتبدأ أعمال الحج، من اليوم الثامن، وهو يوم التروية، إلى آخر أعمال الحج.
ومنها: الأضحية.
وهي: ما يذبح من بهيمة الأنعام، في أيام الأضحى، من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، تقرباً إلى الله عز وجل.
والجمهور.. أنها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا واجبة، والأدلة على ذلك، يجدها من أرادها، أقرب من فتر.
قلت: ولا يقتصر العمل في العشر، على ما ذكر من أعمال، بل على الإنسان، أن يكثر من الأعمال الصالحة، فإن الأجر عظيم، والجزاء جزيل.
ومن الأعمال الصالحة المطلقة، التي يحسن بالمسلم، الاستزادة منها في هذه العشر؛ لشرف الزمان:
قراءة القرآن وتعلمه ـ والصلاة - والبر ـ وحفظ اللسان ـ والإحسان ـ والإكرام ـ والإنفاق ـ وقضاء الحوائج ـ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ والدعاء ـ وإغاثة الملهوف ـ وغض البصر عن المحارم ـ وإدخال السرور على المسلمين ـ والشفقة بالضعفاء ـ واصطناع المعروف - والدلالة على الخير ـ وسلامة الصدر - وترك الشحناء ـ والرفق بالبنين والبنات ـ والتعاون مع المسلمين فيما فيه خير الأولى والأخرى.. إلى غيرها من أعمال البر والتقوى.
قال الحافظ ابن رجب: "وأما نوافل عشر ذي الحجة؛ فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة، تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره".
(فتح الباري: ١٦/٩)
وقال ابن رجب: "لما كان الله سبحانه وتعالى، قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام؛ فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين؛ فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".
(لطائف المعارف: ٣٨١)
وإنما مازت هذه العشر غيرها؛ لاجتماع الطاعات فيها.
قال ابن حجر: "والذي يظهر: أن السبب بامتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره".
(فتح الباري: ٢/ ٤٦٠)
وقد اجتمع في هذه العشر، أيام فضائل، لم تجتمع في غيرها، وهي:
-يوم عرفة، وهو اليوم التاسع، وهو يوم عظيم، به يكمل الحج، فإن الوقوف بعرفة، ركن الحج الأعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).
رواه الترمذي.
ولا يقتصر فضل هذا اليوم على الحاج، بل جعل الله فضله عاماً على الجميع، فكما أن الحاج، يقف فيه بجبل عرفات، لم يستحب له صيامه؛ ليتقوى على العبادة فيه، ولكن يستحب صومه لغير الحاج، استحباباً شديداً، بل فيه الأجر العظيم.. فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صيام يوم عرفة، فقال: (يكفر السنة الماضية، والسنة القابلة)
رواه مسلم.
قال النووي: "ﻓﻬﺬا اﻟﻴﻮﻡ، ﺃﻓﻀﻞ ﺃﻳﺎﻡ اﻟﺴﻨﺔ ﻟﻠﺪﻋﺎء، ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺞ ﻭﻣﻘﺼﻮﺩﻩ ﻭاﻟﻤﻌﻮّﻝ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻔﺮﻍ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺳﻌﻪ ﻓﻲ اﻟﺬﻛﺮ، ﻭاﻟﺪﻋﺎء، ﻭﻓﻲ ﻗﺮاءﺓ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺃﻥ ﻳﺪﻋﻮ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺩﻋﻴﺔ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺫﻛﺎﺭ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻣﻨﻔﺮﺩاً، ﻭﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺔ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻭاﻟﺪﻳﻪ، ﻭﺃﻗﺎﺭﺑﻪ، ﻭﻣﺸﺎﻳﺨﻪ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻭﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻪ، ﻭﺃﺣﺒﺎﺑﻪ، ﻭﺳﺎﺋﺮ ﻣﻦ ﺃﺣﺴﻦ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﻟﻴﺤﺬﺭ ﻛﻞ اﻟﺤﺬﺭ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺼﻴﺮ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﻫﺬا اﻟﻴﻮﻡ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺪاﺭﻛﻪ، ﺑﺨﻼﻑ ﻏﻴﺮﻩ".
(كتاب الأذكار: ٣٤٢)
-يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو العاشر من ذي الحجة.
قال ابن القيم: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله.. يوم النحر)".
(زاد المعاد: ١/ ٥٤)
وذلك؛ لأن معظم أعمال الحج تكون في هذا اليوم، ففيه:
-رمي جمرة العقبة.
-النحر.
-الحلق أو التقصير.
-الطواف.
-السعي.
-يوم عيد المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.. عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)
رواه الترمذي.
-يوم القر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون -أي يستقرون- فيه بمنى، بعد أن يفرغوا من طواف الإفاضة والنحر.
والقرّ: بفتح القاف وتشديد الراء.
عن عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى، يوم النحر، ثم يوم القر).
رواه أبو داود.
-يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي ينفر الناس فيه من منى، ويجوز النفر لمن أراد التعجيل؛ بشرط أن ينفر قبل الغروب.
-يوم النفر الثاني، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وفيه ينفر الناس لطواف الوداع.
والتعجل أو التأخر.. مجمع عليه؛ لقوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه".
هذه بعض الأحكام، عن هذه العشر المباركة.. أرجو أن يكون فيها سِداداً وسَدادا، والله الموفق والمرشد.
وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي
٢ ذو الحجة ١٤٣٥
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق