الخميس، 19 نوفمبر 2020

رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة!


رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة!

لا أدري، من أين أبدأ، ولا من أين ألج، وكيف أمهد، وبمَ أعلق؟! 

لكني أترك السفينة لربانيها، والبيت لبانيها، والقوس لباريها.. هلموا اركبوا السفينة، ثم اسكنوا البيت، وصوبوا النبال في لبد الأعداء.. 

يقول عبد الله عفيفي:
في أصيل يوم صيف سنة ١٩١٤؛ كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا؛ أترقب القطار القادم من الإسكندرية؛ لأتخذه إلى القاهرة.

لقد كان كل في شغل بتلك الدقائق المعدودات، يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغل بصديق يجاذبني حديثاً شيقاً ممتعاً في تلك اللحظات الفانية، وبين ذلك الجمع المحتشد، راع الناس صياح وإعوال، وتهدج واضطراب، ومشادة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا بفتاة في السابعة عشر من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوربي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهي تدافع الرِّجلين حولها بيدين لا حول لهما.

أقبل القطار، ثم وقف؛ فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أصعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجِلت أنا وصاحبي، فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم.. كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يجمل معها الصبر، ولا يحمد دونها الصمت.

سألت الشيخ ما خطبه، وما أمر الفتاة؟ 
فقال -وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى-:
إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها؛ لتتولى أمر غسلها، وأرسلتْ خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها.
ثم أخذت تنفذ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود، وكانت تدعى (روز) فأبت إلا أن تسمى (فاطمة) وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة.

فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها؛ فلم يجد إلا شِماساً وامتناعا،وعزّت على الرجل خيبته؛ فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها!
وهنالك أمر المعتمد، حكومة مصر؛ فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها؛ ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم.

قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟! 
فزفر الرجل زفرة، كاد يتصدع لها قلبه، وأحناء ضلوعه، ثم قال: أما لقد خدعت ودهمت، وغلب أمر الحكومتين أمري، فما عساني أفعل؟! 

على إثر ذلك انثنيت إلى الفتاة، وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله! فقلت: ما بالك يا فاطمة؟ -وكأنها أنست مني ما لم تأنسه ممن حولها-؟
فأجابتني -بصوت يتعثر من الضنى-: لنا جيرة مسلمون، أغدو إليهم؛ فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور، يخطف سناها الأبصار، ويقول -وهو يلوح إلى بيده-: اقتربي يا فاطمة!

ولو أنك أبصرتها، وهي تنطق باسم النبي محمداً؛ لرأيت رِعدة تتمشى بين أعطافها وأطرافها، حتى تنتهي إلى أسنانها؛ فتخالف بينها، وإلى لسانها؛ فتعقله، وإلى وجهها؛ فتحيل لونه!

فلم تكد تستتم جملتها، حتى أخذتها رجفة؛ فهوت على مقعدها، كأنها بناء منتقض! إلى ذلك الحد غشى الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار؛ فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله)؛ تنفست الصعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى.

فلما أفاقت؛ قلت لها: ومم تخافين وتفزعين؟
قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير.. حيث ينهلون السياط من دمي، ولست من ذلك أخاف؛ ألا إن أخوف ما أخاف يومئذ؛ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي!
قلت لها: يا فاطمة؛ أولا أدلك على خير من ذلك؟
قالت أجل. 
قلت: إن حكم الإسلام على القلوب؛ فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟
هنالك نظرت إلي نظرة.. تضاءلت دونها، حتى خفيت علي نفسي!

ثم قالت: دون ذلك؛ حز الأعناق، وتفصيل المفاصل.. دعني؛ فإنني إن أطعت نفسي، عصاني لساني!

وكان ضلالاً ما توسلت به أنا وأبوها ومن حولها.

كان ذلك؛ حتى أوفينا على القاهرة؛ فحيل دونها.

لم أعلم بعد ذلك شيئاً من أمر فاطمة؛ لأني لم أستطع أن أعلم!

رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحر، والإيمان الوثيق.

ذلك ما رأيته، ولا والله ما غيرت منه شيئا إلا أن يكون اللفظ بمرادفه، فإن يكن الوقوف دون الحقيقة تغييراً ما لي العذر فيه.

قال أبو نعيم: هذا ما قصه الأديب عبد الله عفيفي، من أمر هاته الفتاة التي خالط الإيمان بشاشة قلبها. وصدق هرقل في قوله: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)! فرغم صغر سنها، ومخالفة دين أبويها وقومها، التي نمت عليه وربت، والعذاب الملقى عليها.. إلا أنها صبرت وثبتت، ولم ترعوي أو تلتوي!

وهكذا هي المرأة؛ قوية الإرادة، صليبة الدين، أصيلة المبدأ.. لذلك لجأ لإغوائها دول بعَددها وعُددها!

ونحمد الله تعالى؛ إذ لا زالت المرأة شامخة بدينها، عزيزة بحيائها، جريئة في مبادئها، ولم تسمع للنهيق والزعيق والشهيق، بل أعطتهم دبر أذنها، وانطلقت تجر قدميها واطئة على أوراقهم الشوهاء، وأفكارهم العوجاء، وكأنها تقول: ألا شاهت الوجوه.
دمتِ بعز وثبات وشموخ. 

وليد أبو نعيم. 
١٤٤١/٣/٢٣



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق