الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

ألا يصلح أن نكون إخوة ولو اختلفنا؟!


ألا يصلح أن نكون إخوة ولو اختلفنا؟!


جرى بيني وأحد إخواني الفضلاء، نقاش حول مسألة، فاحتدّ الكلام، واشتدّ الخصام حتى دخل حض النفس، وشهوة الانتصار، وغضب كل واحد على صاحبه.. ثم توقفنا، مستعيذين بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن للشيطان كان حظاً من مجلسنا، وهو الذي أوصلنا إلى ما أوصلنا!


صمت كل واحد على وحر صدر، وتكدر خاطر، واغتمام نفس.. أيكون هذا من صديقي تجاهي؟ أيظن بي ظن السوء؟


اعتكف كل منا على كتاب من كتب أهل العلم يقرأ فيه، حتى انتهى وقت كل منا، في تيك المكتبة العامة.

وبقيت أزوّر في نفسي كلاماً لائقاً، واعتذاراً صادقاً، ولكن عن طريق رسالة أرسلها إليه..


وإذا بي أفاجأ عند خروجي، بصاحبي يناديني: أبا نعيم!

الصوت صوت صاحبي، ولكني لم أتوقع!

التفتّ، وإذا به هو صديقي، بصوته المعهود، وبسمته العريضة.. رجعت نحوه، وسلمت عليه، وابتسمنا، وتعاتبنا عتاب المحب الصادق، واعترف كل بجزء من خطئه، واحتمل كل جريرته، وقلنا: ليت ذاك ما حصل، ونقاش المسائل يكون بتداول الأقوال، وتبادل الآراء، وخفض الصوت، واحترام الآخر، وحب الحق، وسرعة الفيء..


وقد جرى للشيخ علي الطنطاوي، ما جرى لي، فاسمعه يقول: "وقع مرة بيني وبين صديق لي ما قد يقع مثله بين الأصدقاء، فأعرض عني وأعرضت عنه، ونأى بجانبه ونأيت بجنبي، ومشى بيننا أولاد الحلال بالصُّلح، فنقلوا مني إليه ومنه إلي، فحولوا الصديقين ببركة سعيهما إلى عدوين، وانقطع ما كان بيني وبينه، وكان بيننا مودة ثلاثين سنة.

وطالت القطيعة وثقلت علي، ففكرت يوماً في ساعة رحمانية، وأزمعت أمراً.


ذهبت إليه فطرقت بابه، فلما رأتني زوجه، كذَّبت بصرها، ولما دخلت تنبِئه كذَّب سمعه، وخرج إلي مشدوهاً، فما لبثته حتى حييته بأطيب تحية كنت أحييه أيام الوداد بها، واضطر فحياني بمثلها، ودعاني فدخلت، ولم أدَعه في حيرته، فقلت له ضاحكاً: لقد جئت أصالحك!


وذكرنا ما كان وما صار، وقال وقلت، وعاتبني وعاتبته، ونفضنا بالعتاب الغبار عن مودتنا، فعادت كما كانت، وعدنا إليها كما كنا.


وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع المختلفين، لو صنع أحدهما ما صنعت؛ لذهب الخلاف، ورجع الائتلاف، وإن زيارة كريمة قد تمحو عداوة بين أخوين كانت تؤدي بهما إلى المحاكم والسجون.


إنها والله خطوة واحدة تصلون بها إلى أنس الحب، ومتعة الود، وتسترجعون بها الزوجة المهاجرة، والصديق المخالف، فلا تترددوا"

(مقالات في كلمات: ١/ ٥٣)


ولكنا حمدنا الله أن دحرنا كيد الشيطان، وأرغمنا أنف بعض الفرقاء المفرّقين، وانتصرنا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وسللنا سخيمة نفوسنا، واعترف كل بفضل الآخر، وتبادلنا الحب والإخاء، والصدق والوفاء، وسلمنا، وغادرنا.

والحمد لله.


قال ابن أبي خيثمة في (تاريخه: ٨٨): حدثنا أبو الجوّاب، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كانوا يتزاورون وهم مختلفون".


وبعد أن حصل هذا؛ قلت: ليت كل خصام حصل بين اثنين، يكون هذا علاجه، وذاك ميسمه؛ لقلّ الهَجْر، وانقطع الهُجْر، وسلمت النفوس، واتصلت الأخوة، وعمرت الصداقة، ولكن للأسف، غالباً ما يكون بعد الخلاف والتلاسن، الشقاق والتضاغن، والكراهية والبغضاء، والتدابر والشحناء، وكأن ذاك الزميل الطيب، لم يكن منه إخاء ووفاء، "كأن لم تكن بينكم وبينه مودة" وهذا ما يرضي الشيطان، ويغضب الرحمن.


وتذكرت حينها قول الشافعي، ليونس بن عبد الأعلى، وقد اختلفا في مسألة، وغضبا من بعضهما، ولكن كان الشافعي أوسع صدراً من يونس -كما كان صديقي أفضل مني- قابله في الطريق، فأمسك بيده، وقال: يا يونس، ألا يصلح أن نكون إخوة، ولو اختلفنا؟!


وعادت المياه إلى مجاريها، واهترأ حبل الفتنة، وانقطع كيد الشيطان، "إن كيد الشيطان كان ضعيفا".


وأذكر هنا، ما كان بين العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكهنوي، والعلامة صديق حسن خان القنوجي..

قال علي حسن خان، عن والده العلامة صديق حسن خان الحسيني البخاري القنوجي -صاحب المصنفات الشهيرة، والمؤلفات الكثيرة، رحمهم الله-: إنه لما بلغه نعي العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكهنوي، وقد جرت بينهما مباحثات ومناظرات علمية، وألّف كل واحد منهما في الرد على صاحبه كتباً ورسائل.. وضع يده على جبهته، وأطرق رأسه برهة، ثم رفع رأسه وعيناه تدمعان، وهو يدعو للشيخ ويسترحم، وقال: اليوم غربت شمس العلم.

وقال: إن اختلافنا، كان مقصوراً على تحقيق بعض المسائل، ثم أعلن الصلاةعلى الغائب".

(نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر : ٨/ ١٢٤٧)


فلنحافظ -إخواني- على أُخوّتنا من الخدش، ونحفظ مودتنا من الكدش، ولنسعى جادّين إلى ما يخفف عن أصحابنا، ويسلي على أحبابنا، من كلمة طيبة، وبسمة حانية، وهدية معبرة، وزيارة صادقة، ووفاء موصول، وبذل مبذول، فإن الأخوة في المحل الأعلى، وفي المقام الأسمى.


أحببت كتابة ما جرى؛ ليكون درساً يحتذى، ونبراساً يقتدى، ونسأل الله أن ييسرنا لليسرى، ويجنبنا العسرى.



وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/٦/١٨

١٤٤٢/٥/٨


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق