السبت، 24 يونيو 2023

محتاجون أم محتالون؟!

 


محتاجون أم محتالون؟!

شاب طوال، أسمر اللون، مكتنز اللحم.. جاءني وأنا في المسجد، قبيل صلاة المغرب، سلّم بتلعثم .. سألني عن اسمي .. صرف من كان حولي!


ثم أخبرني بحاله، وأنه يريد العودة إلى بلدته، وسماها لي، وأنه لا يملك نقوداً تحمله إلى قريته!

اعتذرت إليه خجلاً، لكنه أصر وألح، مقسماً، أنه صادق!


قلت له: اذهب توضأ وصل، وأكثر من الحوقلة، وأبشر بالفرج!

قال لي: طيب، لكن، تضمن لي أن تقضي حاجتي؟!

قلت: أنا لا أضمن لك، لكن، ظني في ربي سبحانه؛ أن يقضي حوائجك!


لما ذهب، تشاورت مع صاحبي في أمره، فقال لي: عجيب، لا أظن أصحاب السيارات يردونه إذا أخبرهم بحاجته وفاقته، وإن رفضوا -تنزلاً- يركب إلى قريته، وهناك يستطيع محاسبتهم!


اتفقت وإياه.. أن نذهب به إلى فرزة (مواقف) السيارات، ونركبه على حسابنا!


ظل الشاب، يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى، حتى أذان المغرب!


بعد الصلاة، أشرت إليه، فلم يهش ولم يبش، بل تحرك ببطء وثقل، ولا زلت به حتى اقترب مني؛ بحيث أسمعه ويسمعني.. قلت له: أبشر، سنذهب بعد العشاء -إن شاء الله- إلى فرزة السيارات، ونركبك على حسابنا!

فلم يسر ولم يستسر ولم يستبشر، بل ظل واجماً في مكانه، يهز رأسه، ويحرك أصابعه!


ولم تمض إلا هنيهة، حتى خرج من المسجد!


لم أصدّق ما رأيت، بل كنت أحدس؛ أن سيعود ولا بد!


صلينا العشاء، ولم نجد له أثراً لكنه ترك تأثيرا!


لا أدري عذره على وجه التحقيق، لكنّ، صاحبي أخبرني بقصص كثيرة مشابهة له، وأن بعضهم -هداه الله- امتهن هاته المهنة الشينة المشينة، وعند المحاققة، يلجأ للهرب والهروب!

والله المستعان.


وأخبرني آخرون.. بقصص مشابهة لمثلها، بل أذكى منها وأنكى!


وفي البيوت عفيفون وعفائف، يربطون الحجر، ويشدون الحُزم، ويمصون التمرة، يسكتون جوعهم، ويسكنون ظمأهم، "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا" وهم مع ذلك، صالحون مصلحون، حامدون مسبحون.

وتالله، إن هناك من الأخبار والقصص، ما تقض مضجع الشَّعور، وتحمي قلب الغيور.


فمثل هؤلاء، تجب عليهم الزكاة، وتستوجب لهم الصدقة، وهم جديرون أن ينظر إليهم، ويعطف عليهم.


وحقيقة، إن السؤال والمسألة، صفة رذيلة، وسمة رديئة، يجب التنزه عنها، والنأي بالنفس عن مستنقعها الآسن.

وفيها من الوعيد ما فيها، وقد ألف شيخنا العلامة مقبل الوادعي، جزءاً في الباب، سماه: ذم المسألة.


وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تُلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتُخرج له مسألتُه مني شيئاً وأنا له كارهٌ فيُبارَك له فيما أعطيته).



ومن وصية قيس بن عاصم لبنيه: "وإياكم والمسألة، فإنها أخِرُ كسب الرجل"

أي: أدنى وأرذل.


وهي محرمة، إلا للضرورة وبقدرها، قال شيخ الإسلام: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"

ينظر (العبودية: ٦٦)


ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، قال لهم: (ولا تسألوا الناس شيئا)

قال راوي الحديث:

"فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه"


وقد ذكر النووي.. اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: «واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق".

(شرح مسلم: ٧/‏١٢٧)


ومن دعاء أحد الصالحين:

"اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ مِنّه؛ فإنّي أستحي من سؤال غيرك"

والله الوافي والكافي.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/١٢/٢




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق