الثلاثاء، 29 يونيو 2021

الحُديدة.. بين الحَرّ والحرْب!

 الحديدة بين الحرّ والحرب!



أُخبرت أن درجة الحرارة وصلت هذه الأيام، إلى (٥٠) خمسين درجة، في مدينتي الحبيبة المسكينة المسلمة المسالمة.


ولعلكم تتعجبون؛ أنه مع هذه الحرارة الشديدة؛ فإن مدينتي محرومة من الكهرباء منذ أربع سنين تقريباً!


قال شاعر:

‏لقد زاد حرُّ الشمس حتى كأنَّما *** ‏شوارعنا فُرنٌ .. ونحنُ فطائرُ


‏هـنيـئاً لمـن عـنَّا .. يــشـد رحـالَهُ *** ‏فمن ذاق نار الصيف لا شكَّ طائرُ


ولكن، كيف الطيران؛ والأجنحة مكسورة، والأطراف مبتورة.. وإلى أين الطيران؛ والأجواء ملبّدة، والناس مبلّدة!


قال الشاعر العزي مصوعي:

إلى أين تمضي، والطريق وعورُ *** ودونك غيلان الشعاب تدورُ


يا حسرتى على الصغار الأزغاب، والكبار الأهرام، والنساء الألغاب!

والله إني أتوجع لكم وأتلوع، ولكن، ليس الأمر بيدي، إنما هو بأيدي رجال لا يخافون الله، ولم يتقوا يوماً هم فيه إلى الله راجعون!


ليس الحر فقط، بل زاده ضغثاً على إبالة؛ الحرب الهوجاء الرعناء اللعناء اللخناء التي أفسدت الحرث والنسل، وقضت على الأخضر واليابس!

يتمت ورملت وأيمت وبترت وقطعت وطعنت ومزعت ومزقت ومرقت وبقرت ومخرت وسلخت ومسخت!


حزني عليك والدي العزيز .. شجني عليك والدتي الكريمة .. وجعي عليك زوجي الناهدة .. بكائي عليكم صغاري الحِبب .. أسفي عليكم أقاربي القرب .. لهفي عليكم صحابي النجب، وجميع من أعرف ومن لا أعرف..


حزني عليكم، ما طلعت الشمس أو غربت .. ما أغطش الصباح أو وضح الضحى .. ما غفت عيني وسهدت وسهرت .. ما قرأت وكتبت وسودت وبيضت..


كيف لي نسيانكم؛ وقد ذقْت ذلك العذاب، واصطليت بتلك النار، وتقرحت بذاك الضيم، وتكبدت تلك الصعاب، وتحملت تيك الأثقال!


والله، إن أمركم يؤرقني، وتالله، إن شأنكم يحزنني، وبالله، إن حالكم يشجيني.. فهل كفاكم هاته التوسية والتسلية والتوجع والتلوع؟!


وهذه إشارات ودلالات:


١- إن شدة الحر؛ هو نفَس النار -نسأل الله السلامة والعافية-؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً؛ فأذن لها بنفَسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير).

رواه البخاري ومسلم.


قال النووي: قال القاضي: "اختلف العلماء في معناه؛ فقال بعضهم: هو على ظاهره، واشتكت حقيقة، وشدة الحر من وهجها وفيحها، وجعل الله تعالى فيها إدراكاً وتمييزاً؛ بحيث تكلمتْ بهذا. ومذهب أهل السنة: أن النار مخلوقة".

(شرح مسلم: ٥/ ١٢٠).


٢- شرع الشرع الحنيف، بالإبراد عن الصلاة عند اشتداد الحر؛ عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا اشتد الحر؛ فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).

رواه البخاري ومسلم.


قال الحافظ: "قوله: (من فيح جهنم) أي: من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه: مكان أفيح، أي: متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها.

وظاهره: أن مثار وهج الحر في الأرض؛ من فيح جهنم، حقيقة".

(فتح الباري: ٢/ ١٧).


٣- تذكروا عيش نبيكم صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومن بعدهم..

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قيل له: حدِّثنا من شأن العُسرة؟ قال: خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلْنا منزِلاً أصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أن رقابَنا ستنقطِع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجِع حتى نظن أن رقبته ستنقطِع، حتى إن الرجل لَينحَر بعيره فيعصِر فَرْثَه فيشرِبه، ويجعل ما بقي على كبده!

فقال أبو بكرٍ الصديق: يا رسول الله، قد عوَّدك الله في الدعاء خيراً؛ فادع لنا فقال: (أتحب ذلك)؟ قال: نعم قال: فرفع يديه صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعْهما حتى أظلَّت سحابة، فسكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر).

رواه ابن حبان في صحيحه.


وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره في يوم شديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما منا أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة).

رواه البخاري ومسلم.


٤- تذكروا القبر وضمته ووحشته وظلمته..


قال شاعر:

من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار؛ يخاف الشَين والشعثا


ويألف الظل كي تبقى بشاشته *** فسوف يسكن يوماً راغماً جدَثا


في قعر موحشة غبراء مقفرة *** يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا


تجهزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى، لم تخلقي عبثا


٥- تذكروا حر النار، وزفرة جهنم "قل نار جهنم أشد حرّا"!


قال الإلبيري في تائيته النفيسة، ناصحاً ابنه (وقد شرحتها، والحمد لله):


تفرّ من الهجير وتتقيهِ *** فهلاَّ عن جهنم قد فررتا؟


ولست تطيق أهونها عذاباً *** ولو كنتَ الحديد بها لذُبتا


فلا  تكذب؛ فإن الأمر جِدُّ *** وليس كما احتسبتَ ولا ظننتا


٦- إن هذا بلاء وابتلاء من الرحيم سبحانه وتعالى؛ ليرفع درجتكم يوم القيامة، يوم أن تدنو الشمس من الخلائق مقدار ميل "ولعذاب الآخرة أشق" فاصبروا -صبركم الله- واعملوا صالحاً، (وصلّوا وكبروا وادعوا الله؛ حتى ينكشف ما بكم).


٧- لا تسبوا الحر؛ فإنه مخلوق من خلق الله، جعله الله في فصل الصيف، وهو من الدهر، وقد جاء النهي الشديد، والحذر الأكيد؛ عن سب الدهر.

ولا بأس بالإخبار، قال تعالى عن لوط عليه السلام: "وقال هذا يوم عصيب".


٨- لا تأسوا ولا تيأسوا؛ فإن فرج الله قريب، وأقرب ما يكون عند الاشتداد:

اشتدي أزمة تنفرجي *** قد آذن ليلك بالبلَج


٩- ادعوا ربكم بالفرج والخرج والبلج، "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" والدعاء عبادة عظيمة؛ غفل عنها الكثير.


عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في هذا القَيظ أو في مثل هذا القَيْظ: (سَلوا الله العفوَ والعافية، واليقين في الدنيا والآخرة).

رواه أحمد والترمذي والنسائي والبزار، وصححه العلامة أحمد محمد شاكر.

ولعل هذا دعاء عند القيظ والحر.


١٠- أختم قائلاً: لا أريد أن أقول لمن عافاه الله مما ابتلاكم به؛ شيئاً، ولا أنبس له ببنت شفة؛ لأني أخاف أن أوجع، ففضلت أن أرجع..


وكل امرئ يدري مواقع رشدهِ *** ولكنه أعمى أسير هواه


يشير عليه الناصحون بنصحهم *** فيأبى قبول النصح وهو يراه


هذا ما أردت كتبه لكم، وإبداؤه إليكم، تذكرة "ومتاعاً إلى حين" و"حسبنا الله ونعم الوكيل" هو "نعم المولى ونعم النصير".


وكتب: وليد أبو نعيم،،

١٤٤٠/١٠/١٠

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق