الجمعة، 25 يونيو 2021

عتْب عاتب وجواب جائب!

 عتْب عاتب وجواب جائب!


نشرت بعض الأعلاق النفيسة، ووشيتها بشيات كانت في صدري حبيسة، حتى انبعثت فانبجست، ولم أُرد بها الشكية أو الأذية؛ فتيك رزية بلا مرية، وإنما قصدت إيناس روحي الموحشة، وإبلال نفسي المجدبة.


فظنّ بعض الأفاضل؛ أني قد تنكبت الطريق، وذممت الرفيق، وجرحت الوفيق -وما هذا لي بخلق-؛  فكتب إلي كتْباً رفيقاً، وعتباً رقيقاً..


فأجبته عن بعض ما بثثت، ووفيت وما خلفت، وعهدت وما نكثت، ونصحت وما غششت..


وقلت -مسترشداً ومستعضداً ومسترفداً بربي سبحانه وتعالى وحده لا شريك له-:


حياك الله أيها الأفضل، ونوّلك أيها الأنبل.

وبعد:

اعلم -علمني الله وإياك والقارئ والسامع- أني لا أبالي بمنع أو قذع، ولا مدح أو منح، أقول: لا أبالي، لكني أتأثر، وأكذب إذا كابرت وأنكرت، فهذا طبع بني الإنسان؛ التأثر والنسيان.

والبذل سجيتي، والمنح مطيتي، وشعاري قول فخاري:

أعذب الألفاظ قولي لك: "خذْ" *** وأمرّ اللفظ؛ نطقي، بـ "لعل"!


وأبشرك -يا محب- أني في ستر عظيم، وخير عميم، وما دمت في طاعة وعلم وقراءة وأمن؛ فلا ضير -وقيته- وإن ما أكتبه من زفرات ونفثات.. أنفّس بها عن بعض ما كدر وعكر. 


واعلم ثانية -أرشدني الله وإياك- لا أريد بما علقت؛ العموم والإطلاق، "إني إذاً لفي ضلال مبين" وهذا حيف وجنف، وظلم وسرف، فهناك أهل صفاء واصطفاء، ومودة وإخاء، لا أحب أن يشاكوا أو يكاعوا، ولو أتوني؛ لوقفت لهم بالباب، ولو كنت عندهم؛ لهششت عنهم الذباب.


لكني لا أنكر أني قصدت، غالب من يبطش بيدين، أو يمشي على رجلين!

وأزعم أني غير ملام في ذلك، أو أنْ قد أتيت المهالك -صُرفتها- ولي على زعمي شاهد ودليل؛ فإليكه: 


قال الله تعالى "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" وقال تعالى: "وقليل من عبادي الشكور".


وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الناس؛ كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) هذا لفظ البخاري عن ابن عمر.

ولفظ مسلم: (تجدون الناس؛ كإبل المائة، لا يجد الرجل فيها راحلة)!


قال ابن حجر: "فعلى أن الرواية بغير ألف ولام، وبغير "تكاد"؛ فالمعنى: لا تجد في مائة إبل؛ راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب؛ ينبغي أن يكون وطيئاً، سهل الانقياد، وكذا؛ لا تجد في مائة من الناس؛ من يصلح للصحبة، بأن يعاون رفيقه، ويلين جانبه.

والرواية بإثبات "لا تكاد"؛ أولى؛ لما فيها من زيادة المعنى، ومطابقة الواقع، وإن كان معنى الأول يرجع إلى ذلك، ويحمل النفي المطلق على المبالغة، وعلى أن النادر لا حكم له.

(فتح الباري:  ١٣/ ١٠٩)


وقال حسان بن ثابت:

أخلاّء الرخاء هم كثير *** ولكن في البلاء هم قليلُ

فلا يغررك خلة من تؤاخي *** فما لك عند نائبة خليلُ


و‏قال الحسن البصري: أعز الأشياء: درهمُ حلال، وأخ في الله إن شاورته في دنياك؛ وجدته متين الرأي، وإن شاورته في دينك؛ وجدته بصيراً به!


وقيل للحسن: يا أبا سعيد؛ الرجل يذبح الشاة فيصنعها، ويدعو عليها نفراً من إخوانه، ماذا تقول فيه هذا؟ فقال: وأين أولئك؟ ذهب أولئك!


و‏قال ابن أبي الحواري: على العاقل أن يتحفَّظ من شيئين: مكر أعدائه، وحسد أصدقائه!


وقال إمامي الشافعي: ليس إلى السلامة مِن الناس سبيل، فانظر الذي فيه صلاحك، فالزمه! 


وسمع الخليفة المأمون، أبا العتاهية، يُنشِد هذا البيت:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحبٍ *** يروق ويصفو إنْ كدرت عليهِ!

فقال: خُذِ الخِلافة، وأعطني هذا الصاحب!


وقال ابن المعتز:

بلوت أخلّاء هذا الزمانِ *** فأقللتُ بالهجر منهم نصيبي

وكلهمُ إن تأملتهمْ *** صديقُ الحضور عدو المغيبِ!


و‏قال داود بن علي: لأن يجمع المرء مالاً فيُخلِّفه لأعدائه، خير له من الحاجة في حياته لأصدقائه!


وقال الحريري:

لا تغترر ببني الزمان ولا تقل *** عند الشدائد لي أخ ونديمُ

جربتهم فإذا المعاقر عاقر *** والآل آلٌ، والحميم حميم!


وقال أبو الطيب:

غاض الوفاء فما تلقاه في عِدَةٍ *** وأعوَز الصدق في الأخبار والقسمِ


‏وقال صفي الدين الحلي:

لما رأيت بني الزمان وما بهم *** خل وفيٌ للشدائد أصطفي

أيقنت أن المستحيل ثلاثة: *** الغول، والعنقاء، والخل الوفي!


وقال ابن الجوزي: "وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر منهم صديق في الظاهر، وأما الأخوَّة والمصافاة؛ فذلك شيء نُسِخَ، فلا تطمع فيه!

وما أرى الإنسان تصفو له أخوَّة من النسب، ولا ولده، ولا زوجته.

فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانباً، وعاملهم معاملة الغرباء.

وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود؛ فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك".

(صيد الخاطر: ٣٨٦)


وقال شيخي عمر بن مظفر:

مات أهل الفضل لم يبق سوى *** مقرفٍ، أو من على الأصل اتكلْ


وقال:

كل أهل العصر غمر، وأنا *** منهم، فاترك تفاصيل الجملْ


وكان في زمنِ كل من ذكرتُ -على اقتضاب- علماء أعلام، وحلماء أكرام، وعظماء فخام.. 


ففي عصر ابن الوردي مثلاً، كان: ابن تيمية، والمزي، والبرزالي، والذهبي، وابن القيم، وابن كثير وغيرهم من الصفوة والنقوة والحظوة.


فماذا أنت قائل أيها الفاضل، وهل لا زلت في عتْبك، أم قد استقر ما قلته في قلبك، وأدركت مرماي، وأبصرت معماي؟!


وأختم داعياً، بما دعا به أبو حيان التوحيدي: (اللهم خذ بأيدينا، فقد عثرنا، واستر علينا، فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب، وتنقى الجيوب، حتى نتعايش في هذه الدار- مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، أنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعاقبة- التي لا بد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الاطلاع عليها، إنك توتي من تشاء ما تشاء)


(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)


وكتب: أبو نعيم -أنعم الله عليه، ومنْ إليه، ومنْ له حق عليه- آمين آمين.

١٤٤٠/١٠/٢٢


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق