الأربعاء، 6 يناير 2021

تلطّف مع عامل، وتخفّف إلى نادل!

تلطّف مع عامل، وتخفّف إلى نادل!(١)

ذهبت مع رفقة إلى مكان ما؛ للنفخ والرفه والنفه؛(٢) فبينا نحن في ذاك الترفه، نظرت إلى العامل، فرأيت البأس واليأس، ناديته، وابتسمت له، واقتربت إليه، ولاينته وسانيته، وواءمته ولاءمته، وسألته عن بلده وأهله، وغربته وعمله..
(وهذا من خلقي، إذا لم أجد ما يمنع -والحمد لله-).

هرع نحوي بجميعه، وأجابني بشغف وابتسامة، ورأيته منصتاً إلى حديثي:
وتراه يُصغي للحديث بسمعه *** وبقلبه ولعله أدرى به!

ولم يكتفِ، بل قال -وهو يريد الاقتراب أكثر-: أعجبني كلامك وأخلاقك!

طلبت منه الجلوس على بساطنا، ومشاركتنا الحديث؛ أنس لنا، وفرح كثيراً بانبساطنا، فلما جاء الطعام، اعتذر بلطف؛ معتذراً بعمله!

دعوت له، وصبّرته على غربته، مع نصح لميح، بأسلوب مليح، لا يجرح أو يقدح، ولا يخدش أو يكدش!

هذا ما كان، مع هذا العامل الفاضل، وفطنتم؛ أني لم أقدّم له شيئاً سوى كلمة طيبة، وبسمة حانية.. لكنها عملت فيه عملاً، وأعطته أملاً.

وبعد فراقه لنا.. قال لي أحد رفقتي: جزاك الله خيراً على تلطفك وتعطفك، ودعوتك لهذا العامل.. فلا أظن أن أحداً قد صنع له ذلك!

قلت: لمَ نزهد عن أعمال قليلة، وعائداتها جليلة؟!
ما الذي يُضيرنا أن نحسن القول، ونترفق في الفعل، ونبسط وجوهنا للعالَمين؟!

إن ابتسامة منك في وجه هذا المغترب عن أهله وعياله.. تُخصب قلبه، وتمرع نفسه، وتشرح صدره، وتفتق لبّه.
تبعث السرور، وتزرع الأمل، وتقطع عليه حبال تفكيره في أهله وصغاره!

وبالفعل، فوالله، ما ذهبت إلى ذاك المكان، إلا وكان في استقبالنا، بابتسامته المجهدة، وجسده المهزول، وقلبه المفعم، وصدره المنعم!

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحب الأعمال إلى الله تعالى، سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دَيناً، أو تطرد عنه جوعاً) رواه الطبراني، وحسنه الألباني.

وقد كان صلى الله عليه وسلم، يمزح مع صحابته رضي الله عنهم، ومنهم عمّالهم وضعفاءهم..
فعن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، الهدية من البادية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّه، وكان دميماً، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني.. مَن هذا؟ فالتفتَ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرَفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: مَن يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن عند الله لست بكاسد، أنت غال)! وفى رواية: أنت عند الله رابح)!
رواه الترمذي، وصححه الألباني.

وقال بعضهم:
الناس كلُّهم عيا *** ل الله، تحت ظلالهِ
فأحبهم طرّاً إليـ *** ـه أبرُّهم بعيالهِ(٣)

فهل بعد هذا.. تبخل -يا معار- حتى بابتسامة الشدقين، أو تكسّر الأشفار؟!

حسناً، لا تريد أن تبتسم؟! ذلك لك.. لا تبتسم! (على أنه يحكي ضيق عطنك، وضيق نفسك)، لكن، أحسن تعاملك بالقول والفعل مع هذا المكرّم -الذي ربما كان أرفع منك شاناً، وأعلى مكانا-! 

فإن أبيتَ المستحب ورددته؛ فإياك أن تأتي محرماً، من رفع صوت، وإيذاء فعل، وترفع واحتقار، وزجر وازدجار.. فاحذر. 

واعلم أيها الرياشي؛ أن الأيام دوَل، والدهر قلّب، فاليوم لك وعليه، وغداً له وعليك!
فكيف تحب أن تعامل؟
إن ما أحببته لنفسك غداً؛ افعله لغيرك اليوم.

اللهم الطف بعبيدك المغلوبين المسلوبين، المغتربين المحتربين، وردّهم إلى أهليهم سالمين غانمين كاملين. 

وكتب: المغرَّب أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٤/٤
حجز الشرايع! - مكة المكرمة. 

ح........................
(١) النادل: هو من يقوم على خدمة القوم في الأكل أو الشراب، والجمع: نُدُل، وهي فصيحة.
قال ابن الأَعرابي: النُّدُل: خَدَم الدعوة.
وقال الأزهري: سُمّوا نُدُلاً؛ لأنهم ينقلون الطعام إِلى من حضر الدعوة.

(٢) النفه: الكَلّ والإعياء، واستعملتها هنا؛ باعتبار الماضي!
وهو أسلوب من أساليب العربية، نحو قولهم -في قول الله تعالى-: "وابتلوا اليتامى"؛ فإن الله تعالى، عبّر باليتم بعد البلوغ والرشد، باعتبار ما كان عليه؛ لأنه لا يتم بعد البلوغ.

(٣) جاء في هذا حديث، بلفظ: (الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)؛ وهو ضعيف، ينظر: (السلسلة الضعيفة: ٣٥٩٠)، و(مجموع الفتاوى: ١٠/ ٥٠٩) لابن تيمية.
وهو بمعنى: الفقر والحاجة إلى الله تعالى، وليس بمعنى الولد له تعالى الله وتقدس.
قال ابن فارس: "عيل: العين والياء واللام، ليس فيه إلا ما هو منقلب عن واو، العيْلة: الفاقة والحاجة، يقال عالَ يَعِيل عَيْلة، إذا احتاج. قال الله تعالى: "وإن خفتم عيلة" وفي الحديث: (ما عال مقتصد). وقال:
من عال منا بعدها فلا انجبر". 
(مقاييس اللغة: ٤/ ١٩٨).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق