الجمعة، 1 يناير 2021

وَحَشُوني الشَّباب!

 وحشوني الشباب!

أخبرتني، أنه كان -رحمه الله- يردد هذه الكلمة، "وحشوني الشباب"، فقد كان صاحب حسّ مرهف، وقلب مكلف.

وعندما مرض، وقطَعه مرضه عن لقاء أصحابه، وهم قد قطعوه من واجب الزيارة، وهم أصحاء!

(وهذه ظاهرة ظاهرة)!


هكذا بلغني، أنه كان يقول لها في مرضه: (وحشوني الشباب)!


رحمك الله يا طيب القلب، ونقي الفؤاد.. غيابهم وحشك، وأنت مريض، لكنك -للأسف- لم توحشهم لا أنت ولا غيابك، بل ولا مرضك، لا أدري، ربما، ولا موتك!


ثم كتبتْ أرملته؛ تشكرني على كلمات رثيت بها زوجها الحبيب -رحمه الله- وأتبعتْ بكلمة؛ أجْرت مدمعي، وأصمت مسمعي، وأحزنت قلبي، وبلبلت لبّي، ولا زالت على أسلة لساني أكررها بيني وبين نفسي، وبين من لا يتهمني بالجنون من بني جنسي!


قالت: (أشكرك على كلامك الذي كتبته، وجزاك الله خيراً، وكنت أتمنى هذا الشيء والكلام الطيب منكم جميعاً، أيام مرضه، يا ليت كان أحد يزوره، أو يتصل عليه!

مات وهو يحبكم جميعاً .. كان يتمنى يشوفكم!

كل مرة يقول لي: (وحشوني الشباب) (ووحشوني عيالي الذين في اليمن.. نفسي أشوفهم قبل ما أموت)! 


قلت: لكنه قضى نحبه، ولقي ربه.. دون أن يرى من وحشوه!

ولا أسف على هؤلاء الأزياف الأرجاف.. بل خير لي ولك، أن لم نكن عرفناهم، ولا التقيناهم يوماً من الدهر. 


إنهم يتركونك في محنتك، ويتخلونك في فتنتك، بل بعضهم يفرح بكسرك -كسره الله- ويضحك لعثرتك -لا أقيل العثرات- ويظن الأنوك؛ أنه بمعزل عن المحنة .. هي آتيتك، لا محالة أيها الأبله! 


آه، تلعثمت كلمي، وارتعش قلمي، فعجزت عن التعبير؛ لتكون كلمته هذه (وحشوني الشباب) أبلغ تعبير، لمن كان له ضمير -وواهاً لمن كان له-! 


بالعزيز الحكيم؛ أصنعتْ فيكم هاته الكلمات ما صنعته فيّ، أم أني قد بالغت في قولي وفعلي وحالي؟! 

أأدمعتْ أبصاركم .. أأصمتْ أسماعكم .. أأوجعتْ قلوبكم .. أغيّرتْ حالكم؟!


يا للتعاسة؛ مريض يتمنى رؤيتنا، ونحن في سكر الشهوات، وحلك الظلمات!

مريض يريد الأنس بنا، ونحن في صدود عنه وإعراض، وشهوة وإنعاض! 

مريض يتفقد أحوالنا، ونحن في غفلة عنه وسبوت، وغياب وخفوت! 


ماذا ينفعه تسطير المقالات، وتزويق العبارات، وتنكيس الرؤوس، وإظهار العبوس؟!


لا ألفينك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زوّدتني زادي!


قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ، خير من فقده، ومن لك بأخيك كله، أطع أخاك، ولِنْ له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله، فيكفيك فقده.

كيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة تركت وصله؟!


قال أبو نَعيم: أمر غريب في الأكثرية، لا يتذكرون رفيقهم أو صديقهم أو معروفهم.. إلا بعد الموت!


ربما لعفة الواحد؛ يطوي بطنه هو وأهله كشحاً، "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا". 

وربما عرف حاله بعض الناس، ولكن: لا أدري، لمَ التواني في هذا الفضل العظيم، والخير العميم؟!

وما أكثر صدقات وصداقات ما بعد الموت!

والله المستعان.


فما حياة امرىء أضحت مدامعه *** مقسومة بين أحياء وأموات؟


أقول هنا للعالَمين: ورب البنية، لم أعلم بمرضه ألبتة، وذلك؛ لأنه لم تكن بيني وبينه علاقة وطيدة، وهو من جيل أساتيذي.


ولو علمت بمرضه؛ لبادرت بزيارته، ولكني لا أعدّ هذا عذراً لي من التبعة، بل إني أطلب من ربي العفو والعافية، ولأخي الفقيد الدرجات العالية. 


ثم ختمتْ رسالتها، بقولها: (يا ليت تعفو عنه، لو غلط عليك في يوم من الأيام.. هو محتاج منكم العفو والرحمة، والدعاء له)!


غفر الله لك يا أختاة، أنا وأمثالي من الغفلى، نطلب من الله سبحانه.. أن يعفو عنا تفريطنا وتقصيرنا، ثم نطلب منكم أهل الفقيد؛ العذر نيابة عن الفقيد. 


ونضرع إلى الرحيم الرحمن، أن يعفو عن فلان بن فلان، فإنه رهين عمله، ورقيم قوله، ولا أعلم عنه إلا خيراً، رغم قلة خلطتي به -كما قدّمت- ولكن هذا ما علمته وخبرته. اللهم بلّ قبره وابل الرحمات، واسقِ جدثه سايح الغفرات.


وكتب الألِم الأليم: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٠/١٢/٢٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق