الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

وفاء حيوان .. وغدر بعض بني الإنسان!

 

وفاء حيوان  .. وغدر بعض بني الإنسان!


قرأت كلمة للعلامة الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني، الشهير، بـ الراغب الأصفهاني، يقول فيها: "الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء، صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بِهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان، فمن فُقِد فيه؛ فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق.

وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتم تعاونهم، إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك؛ لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش؛ ولذلك عظم الله تعالى أمره، فقال تعالى: "أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون".

(الذريعة إلى مكارم الشريعة: ٢٩٢).


فتعجبت من قوله (والوفاء يختص بالإنسان)!

وقد قرأت وسمعت قصصاً قديمة وحديثة عن حيوانات جاوزت الوصف في الوفاء لأصحابها، ودعت للعجب من أوصافها!


وإليك هذا النقل المسهب المُعجب، من كتاب (حياة الحيوان: ٢/ ١٣٥ - ١٣٦) للكمال الدميري الشافعي، قال: "وفي كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، لمحمد بن خلف المرزبان.. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً قتيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية، فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: قتل نفسه، وأضاع دِيته، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه)!


وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كلبٌ أمين؛ خير من صاحب خؤون)


قال: وكان للحارث بن صعصعة.. ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما، فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله؛ وجدهما قتيلين. فعرف الأمر فأنشأ يقول:


وما زال يرعى ذمتي ويحوطني *** ويحفظ عرسي، والخليل يخونُ


فيا عجباً للخل يهتك حرمتي *** ويا عجبا للكلب كيف يصونُ


وذكر الإمام أبو الفرج ابن الجوزي، في بعض مصنفاته: أن رجلاً خرج في بعض أسفاره، فمرّ على قبة مبنية أحسن بناء، بالقرب من ضيعة هناك، وعليها مكتوب: من أحب أن يعلم سبب بناءها؛ فليدخل القرية؟! فدخل القرية، وسأل أهلها عن سبب بناء القبة، فلم يجد عند أحد خبراً من ذلك، إلى أن دُلّ على رجل قد بلغ من العمر مائتي سنة، فسأله؛ فأخبره عن أبيه، أنه حدّثه: أن ملكاً كان بتلك الأرض، وكان له كلب لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا نوم ولا يقظة، وكانت له جارية خرساء مقعدة، فخرج ذات يوم إلى بعض منتزهاته، وأمر بربط الكلب؛ لئلا يذهب معه، وأمر طبّاخه أن يصنع له طعاماً من اللبن كان يهواه. وأن الطباخ صنَعه، وجاء به، فوضعه عند الجارية والكلب، وتركه مكشوفاً، وذهب، فأقبلت حية عظيمة إلى الإناء، فشربت من ذلك الطعام، وردَته وذهبت.


ثم أقبل الملِك من منتزهه، وأمر بالطعام؛ فوُضع بين يديه، فجعلت الجارية تصفِّق بيديها، وتشير إلى الملك، أن لا يأكله؛ فلم يعلم أحد ما تريد، فوضع الملك يده في الصحفة، وجعل الكلب يعوي ويصيح، ويجذب نفسه من السلسلة، حتى كاد أن يقتل نفسه، فتعجب الملك من ذلك، وأمر بإطلاقه؛ فأُطلق؛ فغدا إلى الملك وقد رفع يده باللقمة إلى فيه؛ فوثب الكلب، وضربه على يده؛ فأطار اللقمة منها؛ فغضب الملك، وأخذ خنجراً كان بجنبه، وهمّ أن يضرب به الكلب؛ فأدخل الكلب رأسه في الإناء، وولغ من ذلك الطعام، فانقلب على جنبه، وقد تناثر لحمه!


فعجب الملك، ثم التفت إلى الجارية، فأشارت إليه بما كان من أمر الحية؛ ففهم الملك الأمر، وأمر بإراقة الطعام، وتأديب الطباخ على كونه ترك الإناء مكشوفاً، وأمر بدفن الكلب، وببناء القبة عليه، وبتلك الكتابة التي رأيتها.

قال: وهي من أغرب ما يحكى.


قال الدميري: وفي (الإحياء) عن بعض الصوفية، قال: كنا بطرسوس، فاجتمعنا جماعة، وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا باب الجهاد، وإذا نحن بدابة ميتة، فصعدنا إلى موضع خالٍ، فقعدنا، فلما نظر الكلب إلى الميتة، رجع إلى البلد، ثم عاد ومعه نحو من عشرين كلباً، فجاء إلى تلك الميتة، وقعد ناحية، ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكل إلى أن شبعت، وذلك الكلب قاعد ينظر إلى الميتة، حتى أُكلت، وبقيت العظام؛ فلما رجعت الكلاب إلى البلد؛ قام ذلك الكلب إلى العظام، فأكل ما بقي عليها من اللحم، ثم انصرف.


وفي (الشعب) للبيهقي وغيره، عن الفقيه منصور اليمني الشافعي الضرير، -وله مصنفات في المذهب، وشعر حسن- أنه كان ينشد لنفسه:


الكلب أحسن عشرة *** وهو النهاية في الخساسهْ


ممن ينازع في الرياـ *** ـسة قبل إبان الرياسهْ


وذكر الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء: ٧/ ٢٦٦) خبراً، عن  أبي نُعيم الأصبهاني، بإسناده إلى عارِم، قال: أتيت أبا منصور أعُوده، فقال لي: باتَ سفيان في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لِابني، فقال: ما بال هذا محبوساً.. لو خُلِّي عنه؟! قلت: هو لابني، وهو يهبه لك. قال: لا، ولكن أُعطيه ديناراً. قال: فأخذه، فخلَّى عنه، فكان البُلبل يذهب ويرعى، فيجيء بالعشيّ، فيكون في ناحية البيت. فلما مات سفيان، تبِع جنازته، فكان يضطَرِب على قبره، ثم اختلف بعد ذلك لياليَ إلى قبره، فكان ربما بات عليه، وربما رجع إلى البيت. ثم وجدوه ميتاً عند قبره، فدفن عنده!

هذا نزر من الزمان القديم..


وفي عصرنا هذا عجائب وغرائب..

ففي عام ١٤٣٦؛ شهدتْ قرية الدبيس، إحدى مديريات السدّة، في محافظة إب -وسط اليمن-، مشهداً نادراً؛ وهو أن جملاً؛ مات صاحبه وراعيه؛ فظلّ معتكفاً بجوار قبر صاحبه، وهو الحاج علي حسين النعناع، واستمر أسبوعاً، وهو مرابط حول القبر، تارة يقف، وأخرى يربض، مادّاً عنقه إلى القبر، شامّاً صاحبه، ومستنشقاً ترابه، ولم يغادر القبر إلا بقوة أهل الميت؛ خوفاً عليه من المؤذيات.


قال أهل قريته: عُرف الحاج علي النعناع، وسط أهل قريته، بحبه للحيوانات ورعايته لها، ووفائه معها، وعدم إرهاقها أو إتعابها.


قلت: وقد هاتفت بعض أهل القرية؛ فأكد لي الأمر على التمام.


قلت: فسبحان الله، كيف عرفتْ هذه الدابة العجماء؛ تمييز قبر صاحبها، بل كيف عرف هذا الحيوان؛ أنّ راعيه فارق الحياة، والأعجب؛ كيف استمر وفياً لصاحبه بعد مماته؟! "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".


قال ابن الحاج: وفي هذا؛ درس بليغ؛ لمن خلع ربقة الوفاء، وحسن الصنيعة، وتحلّى بحلية الغدر، وبخع الخديعة.


وهؤلاء الغدرة الفجرة؛ إذا فتشت عنهم؛ وجدتهم أقراف وأخلاط وأمشاج وأوزاع، لا تحويهم قبيلة، ولا يجمعهم شمل!


قال بعض الحكماء: "من لم يفِ للإخوان؛ كان مغموز النسب"!

(آداب العشرة: ٥٣) للغزي.


وقال ابن حزم: "إن من حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق؛ الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين على طيب الأصل، وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات، وأول مراتب الوفاء؛ أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب، لا يحول عنه إلا خبيث المِحتد، لا خلاق له، ولا خير عنده".

(مجموع رسائل ابن حزم: ٢٠٥/١)


وأوصتْ أعرابية، ابناً لها، فقالت: يا بني، اعلم أنه من اعتقد الوفاء والسخاء؛ فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم؛ فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرّين.

(ربيع الأبرار: ٥/ ٢٩٩)


إن الوفاء على الكريم فريضة *** واللؤم مقرون بذي الإخلافِ


وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً *** وترى اللئيم مجانب الإنصافِ


ولله درّ الشاعرة لطيفة الحدّانية؛ فقد تزوجها ابن عمها؛ فولعت به ولعاً شديداً، وأوقع الله حبهما لبعضهما، فأقاما على أحسن حال مدة، وكان يأمرها أن تكون دائماً متزينة مطيبة، و يقول لها: لا أحب أن أراك إلا كذا، فلم يزالا على ذلك؛ فضعف الشاب؛ فمات، فوجِدت به وجْداً شديداً، فكانت تتزين بأنواع زينتها، كما كانت، وتمضي، فتمكث على قبره باكية إلى الغروب!


قال الأصمعي: مررت أنا وصاحب لي بالجبانة، فرأيتها على تلك الحالة، فقلنا لها: علامَ ذا الحزن الطويل؟


فأنشأت:

فإن تسألاني فيم؛ فإنني *** رهينة هذا القبر يا فتيان


وإن تسألاني عن هواي فإنه *** مقيم بحوضي أيها الرجلان


وإني لأستحييه والترب بيننا *** كما كنت أستحييه حين يراني


أهابُك إجلالاً وإن كنت في الثرى *** وأكره -حقاً- أن يسؤك مكاني


فعجبنا منها، ثم انحزنا، فجلسنا بحيث لا ترانا؛ لننظر ما تصنع؟!


فأنشأت:

يا صاحب القبر يا من كان ينعم بي *** عيشاً ويكثر في الدنيا مواساتي


قد زرت قبرك في حُلِّي وفي حللي *** كأنني لستُ من أهل المصيباتِ


لما علمتك تهوى أن ترانيَ في *** حلي، وتهواه من ترجيع أصواتي


أردت آتيك فيما كنت أعرفه *** أن قد تسر به من بعض هيئاتي


فمن رآني، رأى مولهة *** عجيبة الزي تبكي بين أمواتِ!


ثم انصرفت، فتبعناها حتى عرفنا مكانها، فلما جئنا إلى الرشيد قال: حدثني بأعجب ما رأيته؟

فأخبرته بأمر لطيفة، فكتب إلى عامله على البصرة، أن يمهرها عشرة آلاف درهم، ففعل، ووجّه بها إليه، وقد أنهكها السقم، فتوفيت بالمدائن.


قال الأصمعي: فلم يذكرها الرشيد مرة، إلا ذرفت عيناه.

(تزيين الأسواق: ١/ ٩٣) و (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور: ٣١٠).


فأين أين مثيلاتها من النساء، وأين أين أمثالها من ذوي السناء؟!


وإذا كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يروى عنه قوله:

مات الوفاء فلا رفْد ولا طمع *** في الناس لم يبق إلا اليأس والجزعُ


فاصبر على ثقة بالله، وارض بهِ *** فالله أكرم من يرجى ويتبعُ


فما عسانا أن نقول في هذا الزمان الخالف الصالف الراعف الحائف الجائف الزائف النائف الجارف القارف الذارف!

عذراً، ليس الزمان، وإنما أهل الزمان؟!


ويروى لـ عبد المطلب:

يعيب الناس كلهم الزمانا *** وما لزماننا عيب سوانا!


قال الحريري: "تعامل القرن الأول فيما بينهم، بالدين زماناً طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني، بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث، بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع، بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة"!

(آداب الصحبة: ٧٣) للسلمي.


ولا أدري بمَ صرنا نتعامل اليوم مع بعضنا؟!

اللهم عفواً ولطفاً وعطفا.


ذهب الوفاء ذَهابَ أمس الذاهبِ *** فالناس بين مُخاتلٍ ومُواربِ


يغشون بينهم المودة والصفا *** وقلوبهم محشوة بعقاربِ


وقالت الحكماء: "لا شيء أضيع من مودة، مَن لا وفاء له، واصطناع، من لا شكر عنده، والكريم يودُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة".

(العقد الفريد: ٢/ ١٩٢)


ونقل أن رجلاً من العوام؛ كان إذا قدم على الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ يقوم له!

فسئل عن ذلك؟ فقال: أنا سمعت منه: أن الكلب إذا بلغ؛ يرفع رجله عن البول، وأن الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة، واللئيم إذا ارتفع؛ جفا أقاربه، وأنكر معارفه، ونسي فضل معلميه.

(شرح مختصر خليل: ٨/ ٢٣٣) للخرشي.


وإن الأنصار اليمانيين.. ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال عوف بن مالك رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا، فقلت: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، قال: ولا تسألوا الناس شيئاً. قال عوف بن مالك: فقد رأيت بعض أولئك النفر، يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه).

رواه مسلم.


وإن الغدر -مع أنه صفة ذميمة، وسمة وخيمة-.. فإن عقابه مهين أليم عظيم.

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفع لكل غادرٍ لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان).


قال النووي: "معناه: لكل غادر، علامة يشهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء، الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفِلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك".

(المنهاج: ١٢/ ٤٣)


وقال القرطبي: "هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة، فيذمه أهل الموقف". 

ينظر: (فتح الباري: ٧/ ٢٣٢)


وقال الشيخ ابن عثيمين: "وفي هذا الحديث دليل: على أن الغدر من كبائر الذنوب؛ لأن فيه هذا الوعيد الشديد".

(شرح رياض الصالحين: ٦/ ٢٧٣)


ولم أُردْ الحصر إنما القصر، وفيه كفاية؛ لمن أراد الله له الهداية "ومن يضلل الله فماله من هاد" و"فماله من سبيل" و"فلن تجد له سبيلا".


نسأل الله أن يجعلنا من الأوفياء الأتقياء الأنقياء الأصفياء الأزكياء الأحفياء الأخفياء.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/٩/٢٥

هناك تعليق واحد:

  1. ماشاء الله رعاكم الله شيخنا وليد وبارك في علمكم وعمركم

    ردحذف