الأحد، 31 مايو 2020

شهران في الحجْر!

شهران في الحجْر!

قضى الله وقدّر، وله سبحانه وتعالى، الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، التي تعجز عن إدراك كنهها، عقول البشر، أو تطالها أفكارهم!

قضى ربي سبحانه وتعالى.. أن أغادر بلدي الحبيب الحسيب التعيب النهيب السليب، لبلاد كريمة، أفاء الله عليها من خيراته، وأفاض إليها من بركاته، إنها مهبط الرسالة، ومحط الإيالة، إنها مكة المكرمة..

بدَت لي أعلام بيت الهدى ***
بمكة والنور بادٍ عليهِ

فأحرمت شوقاً له بالهوى *** وأهديت قلبي هدياً إليهِ


وطئت أرضها الوثيرة، وأممت نحو حرمها وكعبتها، وسرحت طرفي بين تيك المشاهد الفخيمة التي تذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضي الله عنهم جميعاً.
ولكن، الفرحة لم تكتمل؛ لأن الحجر، كان قد بدأ يطل برأسه من شرفة عالية، فلم أتمكن من الاقتراب المعتاد!
ولكن: (وعن البحر، اجتزاء بالوشل)! 

يا كعبة الحسن الممنع، لا يكن *** بيني وبينك للجفاء حجازُ

حاشا لها من قامة ألفية *** يثني لقاها كاشح همَّازُ


أقمت في مكة، والأخبار المشؤومة تتقاذف الصحف، وتتبدى على صفحات التواصل -وما أقل خيره وأنزره؛ إذ أن الشؤم، عليه يغلب، والهذر، فيه يسف، والوقح، إليه يحن، وغيرها من تيك القواذف والشقاذف!

وبعد أيام، زرت بعض أقاربي الكرام، وبينا أنا أتهيأ للانصراف، -وكان الوقت بعد صلاة الظهر، في العاشر من شعبان تقريباً-؛ إذ بي أفجأ، بإعلان الحجر المنزلي العام، على سكان مكة المكرمة؛ فأسقط في يدي، ولم أحر كلاماً، أو أسطع مقاما!

ولكن، القوم الأقرباء، كانوا من ذوي النبل الظاهر، والشهامة النادرة؛ فجعلوني واحداً من أفرادهم، بل كالكبير فيهم، والإمام لهم، والمتحدث إليهم! جزاهم الله خيراً؛ كفاء صنيعهم، وجميل صنعتهم:

إن الكرام، وإن ضاقت معيشتهم *** دامت فضيلتهم، والأصل غلّابُ

ولا زلت على حالي تلك الحبيسة، التي لم أخرج فيها من محيطي الصغير، وكوخي الأثير.. والنفي هنا، على الحقيقة الحاقة، بكل ما تفهم من كلمة "لم أخرج" بل لم أخطو حتى خطوة واحدة من باب بيتي (المجازي)، ناهيك عن الحوم والعوم في الشوارع والطرق!

وكنت -والحمد لله- دائماً، في فأل وأمل، وحسن ظن وعمل، وأواسي من لاذ بي، ومن هاتفني أو واصلني:

توقّع صنع ربك سوف يأتي *** بما تهواه من فرج قريبِ

ولا تيأس إِذا ما ناب خطب *** فكم في الغيب من عجب عجيبِ


لم تكن هذه المدة الممتدة، مؤلمة لي، أو مبرحة بي؛ لأن خروجي من البيت، في الأصل والعادة؛ لم يكن كثيراً، بل كان نزراً لماما؛ لحاجة الإنسان، -والحمد لله-، وإن كنت حرمت -في الحجر- من أمور وخيور، ولكن، "وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا"، وقد جعل ذلك، سبحانه وتعالى. 

الله عودك الجميل *** فقس على ما قد مضى! 


وتذكرت، كم هي نعمة العافية والحركة، وغيرها من نِعم تعدّ ولا تحصى..
فكم من مقعد في بيته منذ شهور، بل سنوات! نعم -والله- سنوات، وهم في حالهم يفرحون ويبتهجون، وبقضاء الله راضون، فـ (ما شاء الله، كان، وما لم يشأ، لم يكن، وما أخطأك، لم يكن ليصيبك، وما أصابك، لم يكن ليخطئك)!
تذكرت، كم نحن، في تفريط ونسيان، لكثير النعم وجليلها، "بل هم عنها عمون"!

وحينها، تذكرت، اختباء العلامة طاهر الجزائري، مائة يوم ونيف، في بيته؛ خوفاً من بطش الجبارين، وكذا، تلميذه العلامة جمال الدين القاسمي ونحوهم، من أهل العلم والفضل!

ولا أخفيكم -والله- على الرغم، من الألم السائط؛ لفراق الأهل والولد، إلا أني استمتعت بالخلوة عن الجلوة، (وفي الترك، راحة) للقلب، عن الاختلاط العام!

أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرةٍ *** وأحسو قراح الماء، والماء باردُ

ولا أريد هنا، تَعداد مزايا العزلة والانعزال.. فقد سبقني إلى ذلك، أئمة طوال، كـ ابن أبي الدنيا، والخطابي، وابن الوزير الصنعاني ونحوهم، في كتب وأجزاء خاصة في هذه العبادة المهجورة، لمن أحسن اهتبالها!

ولا أريد أيضاً، تحساب، ما استفدته في عزلتي هذه، من: ارتواء وامتلاء واحتواء وارتقاء وانتقاء..

وإنما، هي خاطرة سنحت بفكري العليل، وعقلي الكليل، فلم أرد إضاعتها، فسارعت بكتبها على علاتها -وقاني الله وإياكم العلات والقلات والحلات، والزلات والفلات، ويسرني وإياكم لليسرى، وجنبنا العسرى، ورزقني وإياكم الحسنى وزيادة-.
وسلام السلام عليكم..


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/١٠/٨



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق