السبت، 16 مايو 2020

إحراز الأجر بتنويع الأعمال الصالحة في ليلة القدر!



إحراز الأجر بتنويع الأعمال الصالحة في ليلة القدر!

سمعت أمس، مقطعاً صوتياً قصيراً، لفضيلة الشيخ صالح العصيمي.. يذكر فيه: أن العمل في ليلة القدر، خاص بالصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء، لا مطلق العمل.
واستدل لذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر؛ غفر له ما تقدم من ذنبه).

وقال: من يستحسن التنويع في العمل، كالبر والصدقة والصلة.. فقد غلط في فهم المراد الشرعي منها، لأن هذه الأعمال غير مرادة فيها، وهو معنىً حادث، لا يعرف عن السلف -رحمهم الله-!


أقول -وبالله التوفيق، ومنه التحقيق-: عراني الدهش، ولازمني العجب، عند سماعي هذا الكلام؛ إذ فيه تضييق واسعِ العبادة على الناس، وتغليط من نوّع العمل، وتحديث معنى التنويع، وأنه لا يعرف عن السلف!

لكني، رجعت إلى كتب أهل العلم وفتاويهم؛ فكان هذا المزبور:
أولاً: استدل الشيخ على الخصوصية، بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) ووجه الدلالة عنده: أنه صلى الله عليه وسلم، خص ليلة القدر، بالقيام، فهي خاصة بها، ولازمة لها!

وهذا -في الحقيقة- فهم عجيب؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم، ذكر في هذه الليلة، أشرف ما فيها، وهي الصلاة، ولم يمنع من غيرها، بل لم يعدد سواها.
ثم، إن هذا لا يصلح دليلاً للحصر والخصوصية؛ لأن أجر القيام في الحديث، هو غفران ما تقدم من الذنوب، وهو زائد على ما جاء في خيرية هذه الليلة- بألف شهر، على ما سواها.
فلا يصح تخصيص الحديث للآية؛ لأن الثواب، مختلف.
فعليه؛ يقال: ورد تخصيص القيام في الحديث؛ لشرفه وفضله، وغفران ذنوب فاعله، وتبقى فضيلة الأعمال الصالحة كلها في ليلة القدر.. أنها خير من ألف شهر.

وعلى فرض الاستدلال، بحديث (من قام ليلة القدر ...)؟
أقول: كذلك، جاء في الحديث: (من صام رمضان ...) وجاء (من قام رمضام ...) فهل العمل متوقف في رمضان على الصيام والقيام؟
فإذا قلت: جاءت نصوص أخرى على فعل أعمال أخرى، غير الصيام والقيام، في شهر رمضان!
أقول: حسناً، وما لم يرد من الأعمال، فيها نص، هل يجوز فعلها في رمضان؟
فما قلته من التعليل عن ليلة القدر، يلزمك هنا!


ثانياً: قوله: هذا معنىً حادث، لا يعرف عن السلف -رحمهم الله-!

إطلاق غريب؛ لأن المنوِّع للأعمال الصالحة، غير مطالب بدليل، على تنويعه، في هذه الليلة؛ لأنه معلوم في العموم، وذِكْر المعلوم، غير وارد في كلام السلف، إلا على سبيل الإخبار.
وعليه؛ فالذي يطالب بالدليل، هو الحاضر والمانع.

على أن، مما يصلح دليلاً عاماً على التنويع في أعمال البر، في ليلة القدر.. هي عبادة الاعتكاف، فقد كان صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر، وفي العشر، ليلة القدر، لا محالة.

ثم، إن الأعمال الصالحة، منها ما هو مطلق، ومنها ما هو مقيد، فالمقيد؛ هو الذي يطالب فاعله بالدليل، أما المطلق؛ فلا؛ لأنه يدخل في عموم الأدلة، التي تحث على الأعمال الصالحة في كل زمان ومكان.
لكن، من خص هذه الليلة، بأعمال معينة، وأذكار مقيدة.. فهو الذي يطالب بالدليل، لكن أن يتعبد مستكثراً من أعمال البر والقرب؛ فلا ضير ولا ثرب.

ثم إني، وجدت أثراً.. أخرجه عبد بن حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: العمل في ليلة القدر، والصدقة، والصلاة، والزكاة.. أفضل من ألف شهر).
(الدر المنثور: ٨/ ٥٦٨)

قال ابن باديس: "بيّن هذا الأثر- وفي معناه آثار كثيرة- أن خيرية ليلة القدر؛ راجعة إلى تفضيل الطاعة فيها، والعمل الصالح على غيرها من الليالي والأيام".
(آثار ابن باديس: ٢/ ٣٢٣)

وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن قيس الملائي، في قوله: "ليلة القدر خير من ألف شهر".
قال: عمل فيها، خير من عمل في ألف شهر).
(الدر المنثور: ٨/ ٥٦٨)

ولفظة (عمل) جاءت نكرة، فتفيد العموم، أي: كل عمل صالح.


ثالثاً: لا أدري، لمَ التضييق على المسلمين، في مثل هذه الفضائل والفواضل؛ فإن ليلة القدر، ليست للمصلين فقط، بل هي للنفساء والحائض، والمسافر والمقيم، والمريض والمعذور.

عن جويبر، أن الضحاك، قيل له: أرأيت النفساء والحائض والنائم والمسافر؛ هل لهم في ليلة القدر نصيب؟
قال: نعم؛ كل من تقبل الله عمله، سيعطيه نصيبه من ليلة القدر، لا يخيبه أبدا.

وقال الشافعي: "أستحب، أن يكون اجتهاده في يومها، كاجتهاده في ليلتها".
(الأذكار: ٣١٧)

وأخرج النسائي في (عمل اليوم والليلة) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو علمتُ أي ليلة، ليلة القدر، لكان أكثر دعائي فيها: أن أسأل الله العفو والعافية).

قال النووي: ويُستحب أن يُكثر فيها من الدعوات، بمهمات المسلمين، فهذا شعار الصالحين، وعباد الله العارفين".
(الأذكار: ٣١٧)

بل جاء عن بعض السلف.. تفضيل بعض الدعاء على الصلاة فيها!
قال سفيان الثوري: (الدعاء في الليلة.. أحب إلي من الصلاة).


رابعاً: إن القرآن الكريم، أنزل بلسان عربي مبين، في لفظه ومعناه.. فإذا رجعنا إلى قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر"؛ يتبادر إلى الأذهان؛ جميع الأعمال الصالحة، دون تقييد، أو تخصيص، وهو ما عليه، علماء التنزيل، وأساطين التأويل.
فمن أين تخصيص القيام، دون ما سواه؟!

قال الطبري: "وأشبه الأقوال في ذلك، بظاهر التنزيل؛ قول من قال: عمل في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر".
(تفسير الطبري: ٢٤/ ٥٣٤)

وقال البغوي: "قال المفسرون: "ليلة القدر خير من ألف شهر"، معناه: عمل صالح في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر".
(معالم التنزيل: ٨/ ٤٩١)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الشهر، قد حضركم، وفيه ليلة، خير من ألف شهر، من حرمها، فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم).
رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

فكيف بمن كان مريضاً، أو مسافراً، أو نائماً، أو من كانت حائضاً، أو نفساء..
وكيف حال، من لا يقوى على القيام؛ لضعف، أو كبر، أو عمل، أو مرض، أو غيرها من الأعذار؟!

هل يشملهم هذا الحرمان اللاهب؟!
اللهم، نعم، -على هذا الرأي-!

ولا مخرج لهم، إلا، أن بتنوع الأعمال الصالحة، فيعمل كل فيما يحب، دون تقييد أو تخصيص.

وقال مالك: "بلغني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته، أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر".
ينظر: (لطائف المعارف: ١٩٢)


خامساً: كل ما ورد من تخصيص أعمال صالحة في رمضان.. تشمل ليلة القدر؛ لأنها منه، وخروجها، يحتاج إلى دليل!

ومن ذلك:
رُوي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارِسُه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة).
رواه البخاري.

ولذلك؛ كان من فقه الشافعي، أن قال: (أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم".
(مختصر المزني: ١٥٦) وينظر: (بحر المذهب: ٣/ ٣١٢) للروياني، و(الشافي في شرح مسند الشافعي: ٣/ ٢٥١)

قال الماوردي: "وهذا كما قال. يختار للناس.. أن يكثروا من الجود والإفضال في شهر رمضان؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالسلف الصالح من بعده؛ ولأنه شهر شريف، قد اشتغل الناس فيه بصومهم عن طلب مكاسبهم، ويستحب للرجل أن يوسع فيه على عياله، ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه، لا سيما في العشر الأواخر منه، ويستحب لمن أمكنه إفطار صائم؛ أن يفطره، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر صائماً، كان له مثل أجره، من غير أن ينتقص من أجره شيئا)".
(الحاوي الكبير: ٣/ ٤٧٩)

وقال ابن القيم: "وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه السلام، يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة، ما لا يخص غيره به من الشهور".
(زاد المعاد: ٢/ ٣٠)

وقال ابن رجب: "وكان كثير من السلف.. يؤثر بفطوره، وهو صائم، ويصبح صائماً، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وداوود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وكان ابن عمر.. لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه، فلم يفطر في تلك الليلة.
ومنهم: من كان لا يأكل، إلا مع ضيف له، قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي، يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس، وأكل الناس معه.
وكان منهم: من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم: الحسن، وابن المبارك".
(اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى: ٧٨)

وقال ابن رجب أيضاً: "واعلم، أن مضاعفة الأجر للأعمال، تكون بأسباب، ... ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع -الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان-: (من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)، وفي الترمذي عن أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: (صدقة في رمضان)، وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان، تعدل بحجة) أو قال: (حجة معي)، وورد في حديث آخر: (أن عمل الصائم مضاعف).
وذكر أبو بكر بن أبي مريم، عن أشياخه: أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان، فانبسطوا فيه بالنفقة.. فإن النفقة فيه مضاعفة، كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه، أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
قال النخعي: صوم يوم من رمضان، أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه، أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره، بالنسبة إلى سائر الأعمال.. كان صيام شهر رمضان، مضاعفاً على سائر الصيام؛ لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام- التي بني الإسلام عليها".
(لطائف المعارف: ١٥١)


سادساً: إن تنويع الأعمال الصالحات، في ليلة القدر، نص عليه، من المعاصرين، الشيخ ابن باز‏‎، والشيخ الألباني..

قال -رحمه الله-: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والمعنى: أن من قامها بالصلاة، وسائر أنواع العبادة- من قراءة، ودعاء، وصدقة وغير ذلك.. إيماناً بأن الله شرع ذلك، واحتساباً للثواب عنده، لا رياء، ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه".
(مجموع الفتاوى: ١٥/ ٤٣١)

‏‎وقال رحمه الله -عن قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر".. والمعنى: أن الصدقة فيها، والعمل الصالح.. يضاعف مضاعفة كثيرة، أفضل من العمل في ألف شهر، وهذا شيء عظيم، ينبغي على الناس الاستفادة في الإنفاق فيها، والإحسان فيها، والصلاة وغير ذلك، فإذا صنع طعاماً ليلة السابع والعشرين، أو تصدق بصدقة، أو زاد في الصلاة، كل هذا لا بأس به، يرجو أن توافق ليلة القدر.. فلا حرج في ذلك".
فتاوى نور على الدرب: ١٦/ ٤٨٨)


وقال الألباني: "ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات، لم يخصها بها الشرع، بل يكون جميع أنواع البر مرسلة، في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع، وخصه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك؛ اختص بتلك الفضيلة، تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان.
ومن الأزمان، ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر، كعشر ذي الحجة، وليلة القدر- التي هي خير من ألف شهر، أي: العمل فيها، أفضل من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، فمثل ذلك: يكون أي عمل من أعمال البر، حصل فيها، كان له الفضل على نظيره في زمن آخر، فالحاصل: أن المكلف، ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفة عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم".
(موسوعة الألباني في العقيدة: ٢/ ٥٠٨)


سابعاً: كيف للمتعبد.. تمييز ليلة القدر عن غيرها، والجزم بذلك، والبتّ فيما هنالك، لا سيما، قبل أفولها، وطلوع صبحها؟!
فرجعنا، إلى جعْلها- كسائر الليالي، في تنوع الأعمال الصالحة، دون زيادة أو نقصان!
فكأن الكلام في تخصيصها.. تحصيل حاصل، لا غير.


هذه نقاط، أردت بها التنويه والتنبيه، فما كان فيها من صواب؛ فمن الله وحده، وما كان فيها من شطط؛ فمني والشيطان، والحق أحق أن يتبع، وأولى أن يستمع،
والله أعلى وأعلم، وأولى وأكرم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/٢٣


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق