السبت، 18 أبريل 2020

أمراض اليوم ومرض القوم!

أمراض اليوم ومرض القوم!


أشهر الطواعين خمسة:
قال أبو الحسن المدائني: "كانت الطواعين العظام المشهورة في الإسلام خمسة:
١-طاعون شيرويه بالمدائن، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، سنة ست من الهجرة.

٢-طاعون عمواس، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفا، وكان سنة ثماني عشرة.

٣-طاعون الجارف في زمن ابن الزبير، في شوال سنة تسع وستين، هلك في ثلاثة أيام، كل يوم سبعون ألفاً، مات فيه لـ أنس بن مالك رضي الله عنه؛ ثلاثة وثمانون ابناً، ويقال: ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لـ عبدالرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً.

٤-طاعون الفتيات؛ لأنه بدأ بالعذارى، في شوال سنة سبع وثمانين بالبصرة وواسط والشام والكوفة.

٥-طاعون في رجب، سنة إحدى وثلاثين ومائة، واشتد في شهر رمضان فكان يحصى في سكة المربد في كل يوم ألف جنازة أياماً، ثم خفّ في شوال".

(شرح مسلم: ١/ ٩٦) و (كتاب الأذكار: ١٥٥) كلاهما للإمام يحيى بن شرف الدين النووي.


قال أبو نعيم -كان الله له ومعه: الذي ينظر إلى هذا الوباء الجارف الحاصد.. يتسلى بالحاصل الآن، مع التفاؤل بالزوال؛ فإنه لا شيء مقارنة بأمراض من سلف.


وقد يقول قائل: كيف تصيب هذه الأمراض القاتلة، تلك القرون الفاضلة؟

أقول -والعلم عند الله تعالى-:
أولاً: إن الأمراض لا علاقة لها بالصلاح أو الفساد، وإن كان يستأنس بها، فللصالح؛ ابتلاء، وللطالح؛ بلاء.

‏‎‎عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطاعون؟ فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
رواه البخاري.


ثانياً: إن الطاعون وباء معروف من قديم، ليس كأمراض العصر التي لم تكن تعرف في الزمن الماضي، بل كانوا يعدونه فضلاً من الله ونعمة؛ لأن المطعون شهيد.
وقد أُلِّفت في الطاعون، وفي فضله.. التواليف الكثيرة، حتى ناهزت المائة أو نافت!

ثالثاً: إن عدم مرض الكافرين، أو أخذ الظالمين، ليست رحمة بل هي نقمة.
ولا ننسى سنة الإمهال والاستدراج؛ لمن طغى وبغى؛ فحقت عليه كلمة العذاب..

قال تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون".
‏قال سفيان الثوري: "‏كلما أخطؤوا خطيئة؛ أنعمنا عليهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار".
(المخلصيات، رقم: ٢٣٥٢).

وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه من الدنيا؛ فاعلم أنه استدراج، وتلا قوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون").
رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.

و‏‏قال الإمام الطبري: "وأصل الاستدراج: اغترار المستدرَج، بلطف من استدرجه، حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسن، حتى يورِّطه مكروهاً".
(تفسير الطبري: ١٣/ ٢٨٧)

رابعاً: إن الدنيا ليست موطناً للفوز والانتصار؛ لأنها دار ابتلاء واختبار، ومن المعلوم: أن الفوز أو الخسران، لا يكون إلا بعد الاختبار والامتحان؛فلذلك كان القوم (وهم القوم حقاً)؛ يأنسون بالأمراض، بل إن بعضهم: كان يتهم نفسه إذا لم يمرض!

وهذا أكرم الخلق، وقرين الحق؛ كانت تعتريه الأمراض والأسقام..
قال ابن رجب: "وكان صداع الرأس، والشقيقة.. يعتريه كثيراً في حياته، ويتألم منه أياماً- وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان، وأهل الجنة".
(لطائف المعارف: ١٠٥)

بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدهش في ذلك!
عن أبي هريرة قال: (مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، أعرابي، أعجبه صحته وجلده، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: متى أحسست أم ملدم؟ قال: وأي شيء أم ملدم؟ قال: الحمى، قال: وأي شيء الحمى؟ قال: سخنة تكون بين الجلد والعظام، قال: ما لي بذلك عهد! قال: فمتى أحسست بالصداع؟ قال: وأي شيء الصداع؟ قال: ضربان يكون في الصدغين والرأس، قال: ما لي بذلك عهد! قال: فلما قفا أو ولى الأعرابي، قال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار؛ فلينظر إليه).
أخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه أحمد شاكر، وصححه الألباني، والوادعي.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك، بالطعن والطاعون).
رواه أحمد وصححه الألباني.

"قال العلماء: أراد -صلى الله عليه وسلم-: أن يحصل لأمته، أرفع أنواع الشهادة، وهو: القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم- إما من الإنس، وإما من الجن".
(فتح الباري: ١٠/ ١٩٠).

وقال ابن حجر: "والطاعون لمُؤمِني هذه الأمة.. رحمة، وشهادة".
(بذل الماعون في فضل الطاعون: ٧٨).

خامساً: كانوا يعدّون الأمراض؛ مواسم، للتوبة والأوبة!
قال أبو الوفاء ابن عقيل: "الأمراض.. مواسم العقلاء؛ يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم، إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم، إن لم يكونوا أرباب زلات، ويعتدونها، إن خلصوا منها بالمعافاة.. حياة بعد الممات، فمن كانت أمراضه كذا؛ اغتنم في الصحة صحة، فقام من مرضه: سليم النفس والدين.
والكافر.. ينفق على الأدوية، ويعالج الحمية، ويوفي الطب الأجر، وليس عنده من علاج دينه خبر.. فذاك ينصرع بالمرض انصراع السكران، ويفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثان".
(كتاب الفنون: ١/ ٤١٣).

والبلاء عندهم كالدواء.. يقول ابن القيم: "ابتلاء المؤمن، كالدواء له، يستخرج منه الأدواء، التي لو بقيت فيه، أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة".
(إغاثة اللهفان: ٢/ ٩٣٥).


وأخيراً: الواجب على الجميع: الثقة بالله تعالى، وصدق التوكل عليه سبحانه، والتوبة والأوبة إليه، ومراقبته في كل خلوة وجلوة، والإكثار من فعل الطاعات والقربات، والابتعاد عن المعاصي والسيئات.

ويتوجب على الجميع: أن يتكافلوا ويتآلفوا ويتقاربوا ويتعاونوا ويتآزروا.. فيما بينهم، وكل يتفقد قريبه وجاره، ولنبتعد عن الأثرة والأنانية.
وإن فرج الله قريب.


وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٧/٢٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق