الثلاثاء، 25 يوليو 2023

خلق نادر في أديب الجادر!

 


خلق نادر في أديب الجادر!

لم أكن على علاقة، ولا تواصل، بله ولا تراسل، بيني وبين الأستاذ المحقق الخلوق محمد أديب الجادر، حاشا سماعي عنه كثيراً منذ أمد، وأول عمل رأيته له: "فهارس زاد المعاد" في مكتبة مسجد من مساجد بلدي الحبيب!


ثم رأيته في الفضاء الأزرق، ينشر مناشير لطيفة، أو يعلق تعاليق طفيفة، وأحدس؛ أن رأيته معلقاً على منشور كتبته، ولا أتذكره!


ثم سمعت بوفاته قبيل أيام، وقرأت تآبينه، من أحبابه وأترابه وطلابه؛ فأكبرت فعاله، وأعظمت نباله، وقلت حقاً: لا تعرف فضائل الفاضل حتى يوارى الجنادل!


أنا لا ألوم هذا الذكر الجميل وذاك الجمال، ولكن، أليس الجمع، أولى من الإهمال؟!


الناس لا ينصفون الحي بينهمُ *** حتى إذا ما توارى عنهمُ ندموا!


أقول: وإن خصلة فريدة، وخلة وحيدة، أخذت بمجامعي، واستولت على أحاسيسي، وسيطرت على كياني، وقد أجمع عليها، كل من ترجم له أو أبّنه أو ذكره أو تذكره، (وأوعبهم، الصديق أيمن ذوالغنى) وهي: سلامة الصدر، ولين الجانب، وخفض الجناح!


أحببته جداً .. حزنت عليه كثيراً .. دعوت له .. تمنيت لو صادقته ولو مصادفة؛ لأن هؤلاء نادرون، وصحبتهم مغنم، وصداقتهم مكسب، ولكن، قدر الله غالب "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"


تُرى، هل كنت فعلتُ ذلك، لو لم تكن سيرته كذلك؟!

الجواب: لا، إنما أحببته وأكبرته؛ لهاته الخصلة الأثيرة اليتيمة، في دنيا الزيف والملق، إلا من نزر قليل كأبي وائل -رحمه الله-!


وهي خلة مهم توفرها في دنيا الأصدقاء، وقد ذكر بدر الدين الغزي؛ عن الصديق؛ أن من آداب عشرته؛ "سلامة قلبه للإخوان"

وقال السقطي: "من أجلّ أخلاق الأبرار؛ سلامة الصدر للإخوان والنصيحة لهم"

(آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة: ٢٠)


ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا


وايم الله، إن هذه الخصلة، قد عزّت حتى أعوزت، فلا تكاد ترى متصفاً بها، ولا تظن أنك ملاق أهلها، إلا لماما شماما!


ولله در محمود، فقد ضرب بسهم وافر في هذا المهيع المليح، على حدة غضبه -كما قيل-، لكنها، غلظة لحظة، فاسمعه يقول: "ثم اعلم بعد ذلك أيضاً.. أني لا أبيت ليلة طاوياً ضلوعي على حفيظة تؤرقني، من إساءة أحد يسيء إليّ متعمداً أو غير متعمد".

(جمهرة مقالاته: ٢/ ١٠٩٥)


وهاتوا لي كأبي فهر؛ فإن سرعة الغضب مع سرعة الفيء وسلامة القلب؛ من صفات الرجال الذين لا يتصفون بحنة ولا يبيتون على حر!


على أنك واجد في حياتك، من يكتم غضبه، ويكظم غيظه، لكن، قلبه يغلي كالمرجل، وصدره يتميز من الغيظ، وود لو بطش بك، وإن سكت، فهو سكوت المتحفز المستوفز، ثم تسمع الفجار، وتشاهد الانفجار!


تتعجب، وقد كان قبل يقسم لك، أنه يحبك ويودك، نعم، ولكنه، حب اللسان، أما قلبه، فقد كان يقدك ويقطك!

اللهم وقاية وكفاية وهداية.


إذا أدْمَتْ قوارِصُكمْ فؤادي *** صبرت على أذاكمْ وانطويتُ

وجئت إليكمُ طَلْقَ المُحَيَّا *** كأني ما سمعت ولا رأيتُ


قال الطرطوشي: "إذا رأيت إنساناً حَقوداً، لا ينسى الهفوات، ويجازي بعد المدة على السقطات، فألحِقْهُ بعالم الجِمال.

والعرب تقول: فلان أحقد من جمَل.

وكما تجتنب قرب الجمل الحقود؛ فاجتنب صحبة الرجل الحقود.

(سراج الملوك: ١١٢)


ومن هنا؛ تعلم ما كان عليه سلفنا الصالح، من تآخ وتواد..

قال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير، -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً، ويُؤْجَرون كثيراً! قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم!

(الزهد: ٢/ ٦٠٠) لهناد بن السري.


قال قاسم الجوعي: "أفضل طرق الجنة؛ سلامة الصدر"

(صفة الصفوة: ٢/ ٣٨٩)


وقال مثله الأكفاني.

ينظر: (تاريخ دمشق: ٤٩/ ١٢٣)


وروى أبو داود والترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُبَلِّغُنِي أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)


قال ابن المَلَك: "وقيل: معناه: أنه -صلى الله عليه وسلم- يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير حقد على أحد منهم".

(شرح المصابيح: ٦/ ٤٠١)


وإن أردت التحليق في مدارج السلامة، والتعريج في معارج الكرامة؛ فاسمع ما قال ابن العربي، قال: "لا يكون القلب سليماً، إذا كان حقوداً حسوداً معجباً متكبراً، و قد شرط النبي صلى الله عليه و سلم في الإيمان، أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".

(أحكام القرآن: ٣/ ٤٥٩)


بل إن سلامة الصدر؛ من أرجى أعمال المؤمن..

عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول من يدخل هذا الباب رجل من أهل الجنة) فدخل عبد الله بن سلام، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فأخبرنا بأوثق عملك في نفسك ترجو به، قال: إني لَضعيف، وإن أوثق ما أرجو به؛ سلامة الصدر، وترك ما لا يعنيني. 



والحق؛ أن الفظاظة والغلاظة، لا تدوم معها صحبة، بل هي منهارة أو على شفا جرف هار..


ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، و فيهم مَسْلمة، وكان سيدهم، فقال: "ليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة الصدر، و الأخذ بجميل الأمور".

(تاريخ دمشق: ٦٣/ ١٧١)



ويكفي عن كل ما سبق؛ قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم"


فواهاً واها، لذوي الخلق الرفيع، وهنيئاً هنيئا لأولي الأدب البديع؛ إنهم اغتنموا حياتهم في الراحة والانشراح، ونالوا جزاهم -بإذن الله- في جنة ورواح.

ونسأل الله تعالى؛ أن يجعلنا ممن تشيا بهاته الشيات، وتزيا بهذه الصفات، والله ولي الهداية والتوفيق.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٥/١/٧



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق