الأحد، 4 يونيو 2023

رحل بصمت كما عاش!

 رحل بصمت كما عاش!

اليوم، وبين أذان وإقامة صلاة الفجر، رأيت شاباً في مقتبل عمره، يقوم ويقعد -وكثيراً ما يفعل، وكأن في عقله لوث، ولعله لوث الفقر المذقع، عافاه الله- أشرت إليه، أن اجلس مكانك في الصف الأول!


امتثل وجلس، ثم سألته: هل تدرس في حلقات التحفيظ؟

فأجاب بالنفي، وأشار إلي صديقي، يخبرني عن مرضه!

قلت في نفسي، أقتنص الفرصة؛ لأعلمه سورة الفاتحة!

قلت له: اقرأ الفاتحة، فأخذ يرتلها ترتيلاً حسناً، دون أخطاء جلية.

قلت له: ما شاء الله، صوتك جميل، فيا ليتك تلتحق بحلقات التحفيظ.

فشكا إلي؛ أنهم لم يقبلوه!


قال لي صديقي: صوته بالأذان أجمل!

قلت: ما شاء الله، مثل والده!

فنكس الشاب رأسه، وقال: الله يرحمه!

ذهلت ودلهت، وتلعثمت!


قال لي صديقي: سبحان الله، ما عرفت .. عجيب، ما كلمتك .. كأني أخبرتك؟

قلت: والله لم أعلم إلا الساعة!

استرجعت ودعوت له بالرحمة، وعزيت المسكين، وإن تأخر الوقت!


ثم قال لي صاحبي: هنيئاً له، مات موتة يتمناها العلماء.. مات وهو صائم، بعد أن صلى فجر ذلك اليوم معنا في المسجد!


كان صائماً الست من شوال، صلى معنا الفجر، ثم رجع إلى بيته ونام، ولما جاء أهله ليوقظوه؛ إذا به قد فارق دنيا البلاء والابتلاء!

قال لي: صلينا عليه صلاة العصر من ذلك اليوم، وشيعناه، وكان جمعاً مهيباً.


قلت: وقد كنت أعرف هذا الرجل الفاضل، بصوته قبل شخصه، وأنا صغير مناهز؛ وذلك أنه كان يؤذن الأذان الأول في مسجد حيه، وكان صوته شجياً ندياً غاية!


وحين سماعي أذانه، كنت أهبّ من نومي، منصتاً لهذا الصوت الخاشع الرائع، ولم يكدر علي صفوي، إلا اختلاط صوته بغيره من المؤذنين، فكنت أقوم وأجلس إلى جهته، وأضع يدي على أذني، وأقول: صه، أتسمعه!


وكنت أخبر بعض صحبي، عن هذا الصوت المعجب المطرب، من يكون؟ فلم أظفر بجواب!


حتى كنت ذات يوم في محاضرة، في ذاك المسجد؛ وإذ بي أسمع هذا الصوت الندي، ورأيت صاحبه عن كثب!

ستيني طوال، أسمر اللون، خفيف اللحية، تراه وقد تخلى عن كل كلفة وتكلف، ولبس ثوب التواضع والفقر، وقد كان الفقر ضارباً عنده أطنابه، حتى أضر به جداً في أواخر أيامه، حتى أوشك على فقدان بصره!


فرحت جداً، وحمدت الله؛ أن ظفرت بصاحبي الذي لم أعرفه!

لكن، للأسف، لم يدُم فرحي، فقد توقف أو وقّف عن الأذان بعدها، وجهدت أن أسمعه أخرى، ولكن ذلك لم يكن!


وكم تمنيت أن يكون هذا الرجل مؤذناً رسمياً في مسجد من المساجد، وأبحتُ هذا لبعض صحبي، فشاركوني الرأي، ولكنها أمنية لم تتحقق!

ولو كان في غير بلدي؛ لدُفعت له الأموال، حتى يؤذن، فاعجب!


وكنت أرى هذا الرجل الصالح -أحسبه- دوماً في المسجد، لا يحتك بأحد، ولا يشتكي منه أحد، يصلي ثم يلفّ عمامته ويضعها تحت رأسه، ويذهب في نوم عميق، هارباً من حر البيت اللاهب!


رحمك الله يا عم قاسم، عشت وحيداً صامتاً، ومتّ كذلك، وحسبك هذه الخاتمة الحسنة.

إنا لله وإنا إليه راجعون.


وكتب: وليد الوصابي

١٤٤٤/١١/١٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق