الأربعاء، 6 يوليو 2022

وداعاً "حي النسيم"! سبعة أشهر حسوم في حي النسيم!

 وداعاً "حي النسيم"!

سبعة أشهر حسوم في حي النسيم!


جفاني الكرى، وعاودني الوسن، وزارني الحنين؛ لأيام خلت، وليالي مضت في حي جميل، ومحياً خميل، وجدت فيه مناي، وأدركت فيه مرماي، إنه "حي النسيم"، الذي كان لي كعليل النسيم؛ هبوباً وهدوءاً، وراحة وروحاً، وسكينة وطمأنينة!


وأنا رجل ألوف عيوف!

أما ألوفي، فكما قال الكندي:

خُلقت ألوفاً لو يعاودني الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!


قال الخطيب البغدادي: "سمعت محمد بن عبيد الله بن توبة الأديب يقول: لا أعلم نقل في معنى الإلف، أحسن من بيت المتنبي:

خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا"

(تاريخ بغداد: ٥/ ١٦٤)


وقال الواحدي: "هذا البيت، رأس في صحة الإلف؛ وذلك أن كل أحد يتمنى مفارقة الشيب، وهو يقول: لو فارقت شيبي إلى الصبا، لبكيت عليه؛ لألفي إياه؛ إذ خلقت ألوفاً".

(شرح ديوان المتنبي: ٣١١)


وحالي، كحال الأديب الطنطاوي؛ حيث يقول: "ولا انتقلت من دار إلى دار، ولا من بلد إلى بلد، ولا تحولت من عمل إلى عمل.. إلا أسيت على فراق ما تركت ورائي، وخشيت ما سألقاه أمامي. فهل كان المتنبي ينطق بلساني، حين قال:

خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا"؟!

(ذكريات الطنطاوي: ٥/ ١٥٦)


وأما عيوفي، فكما قال البارودي:

خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرةٍ *** علي يداً، أغضي لها، حين يغضبُ!


فلله، ما أعز هذه النفس، وأبعدها عن مواطن التطامن، وأنزهها عن مواقع الاعتساف، لكنها، تحفظ حق الإخاء، لمن عرفه، أما من رأى نفسه، فوق صحبه، وصار يتوقى حين غضبه، فلا كرامة ولا شهامة، إن أغضي له، وهرع إليه.


‏قال المبرد:

إذا تاهَ الصديق عليك كبراً *** فَتِهْ كبراً على ذاك الصديقِ


فإيجاب الحقوقِ لغير راعٍ *** حقوقك؛ رأس تضْييع الحقوقِ


ومثلها:

زِنْ من وزنك بما وزنك *** وما وزنك به فزنهُ


من جا إليك، فرُح إليه *** ومن جفاك، فصد عنهُ


وعوداً، إلى حي النسيم، أقول: تفيأت ظلاله، وتروحت خلاله .. استعذبت نميره، واستروحت جويره .. استوطنت مساجده، وتوطنت معابده .. تنسمت أنواره، وتسنمت أغواره!


مساجده كبيرة كثيرة وفيرة، ضخمة فخمة .. نظيفة لطيفة، تزخر بالتهجد والعبادة، وتضج بالسجود والتلاوة.


فمسجد خديجة بغلف، الجامع الكبير الجميل، الذي لا يخلو من عبّاده وقصّاده، من شتى الأعراق والأجناس، يأتي بعضهم، قبل الأذان، ولا يزال في تهجد وإخبات، وقراءة للقرآن، لا سيما في رمضان.


ومسجد زهية لنجاوي، المسجد الزاهي بتواضعه، متوسط الحجم، إلا أنه معمور بالصلاة والقراءة، فبعضهم: لا يكاد يسبقه أحد، وثان: لا يغادر مصحفه، وثالث: لا يفتر عن القراءة، ونحوهم وغيرهم.


ومسجد رقية، تدخل قبل الأذان، لا سيما أذان المغرب، خاصة الإثنين والخميس، فترى الصائمين قد أخذوا مواطنهم في الصف الأول، ويأتي بعض موسريهم، فيوزع الماء والتمر والقهوة، ورأيت قراطيس، ربما فيها أكبر من ذلك!

وبعضهم، يجلس ما بين المغرب والعشاء، للذكر والقراءة، عدا طلاب التحفيظ، الذين كأنهم خلية نحل!


ومسجد الفتح، مفتوحة أبوابه للذكر والعبادة، كغيره من المساجد التي يذكر فيها اسم الله.


ومسجد الكوثر، كالكوثر في جماله، والقمر في جلاله، مع توزع الحلقات بين جنباته.


ومسجد الفردوس، تسأل الله الفردوس الأعلى حين ولوجه، وتسأل الله دوام الثبات، وإدامة الخير.


ومسجد اليحيى، رحب الفناء، واسع الأفياء، تقام فيه دورات علمية، وفي أيامي، أخبرت عن قيام دورة فيه، للشيخ خالد المشيقيح، ولكن للأسف، لم أعلم إلا بعد انتهائها، فالله المستعان.


ومسجد التقوى، تتوشح التقوى عند دخوله، وتلازمها حين خروجه، وتتفكر في آيات الله وهباته -جعلنا الله من أهلها-.


ومسجد الفرقان، جميلة أرجاؤه، رحيبة ساحاته، يقصده الشيوخ الطاعنين، والشباب النابهين.


ومسجد المحطة، صغير كالمفحص، ومتواضع كالكوخ، أحب الصلاة فيه؛ لأن ابني كان يتدرب فيه على الأذان، بل تجرأ مرة، وسألني أن يؤم آمّيه؛ فنهيته؛ لعدم نضج نُهاه!


كل هذه المساجد -وربما غيرها- في حي واحد، يؤمه جيرانها، ولا يتوانون عن شهودها، حتى أنها قد تمتلئ في بعض الصلوات.


وإني رأيت شيئاً، -ولا أدري- ربما لم أره في غيره من الأحياء، وهو: ازدحام المساجد، وكثرة عمارها، ووفرة زوارها!

وكنت أخبر بهذا، من يزورني، فيوافقني!


إنه حي جميل الأنحاء، خميل الأفياء، وافر الصلاح، هادئ الضجيج، قليل الصخب، هذا وصفي للديار والدور.


أما الإنس والأناسي.. فلم أكد أتعرف على أحد؛ لانزوائهم على ذواتهم، وإقبالهم على أنفسهم، ونفورهم من غيرهم، ومن طبعي.. أن لا أقتحم الناس في خصوصاتهم، ولا أفرض نفسي على غيري، بل إذا وجدت إقبالاً، أقبلتُ وأكثر، وإذا رأيت إدباراً، نفرتُ وأكثر؛ لأن نفسي علي عزيزة، لا أحب إهانتها ولا امتهانها.


كما قال حاتم:

‏ونفسُك أكرمها فإنك إن تهُن *** عليك، فلن تلقى لها الدهر مُكرِما!


‏‎ويقول آخر:

فنفسك أكرم عن أمور كثيرة *** فما لك نفس بعدها تستعيرها!


 وقال آخر:

‏‎إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها *** هواناً بها، كانت على الناس أهونا!


ولا أعمم تعميماً، يخرجني عن القسط والعدل؛ فقد صادفت رجالاً، وصادقت أبطالاً، ذوو شهامة وشمم، وكرامة وكرم، وهؤلاء اليوم في قلة ونزر، فإذا وجدتهم، فابسط إليهم يديك، وعض عليهم بناجذيك، فإنهم أنذر من الكبريت الأحمر!


قال يوسف بن أسباط: أتيت سفيان الثوري رحمه الله، فقلت: يا أبا عبد الله، أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني يرحمك الله، قال: أنكر من عرفت. قلت: زدني يرحمك الله. قال: 


اُبلُ الرجال إذا أردت إخاءهم *** وتوسمن أمورهم وتفقدِ


وإذا ظفرت بذي الأمانة والتقى *** فَبِهِ اليدين قرير عينٍ فاشددِ


بعد هذا الوصف المعتصر والمختصر، لهذا الحي الحي، أحب أن أقول- لمساجده ودوره، وشوارعه ومروره، ولا بأس، حتى ناسه، أقول لهم: وداعاً وداعاً، فقد عشت أياماً حسنة، وليالي مباركة، ازددت فيها خيراً، وسيرت فيها سيراً، لم أحبك لغرض دنيوي، فلم أجد فيك دنيا، إنما وجدت فيك الدين والأخرى، والحمد لله في الآخرة والأولى.


مسافر أنت، والآثار باقيةٌ *** فاتركْ وراءك ما تحيي به أثركْ


وأقول: لولا أمور وأمور؛ لما رغبت عنها، ولما خرجت منها، ولكن، لا بد مما أراده الله وقضاه، وشاءه وقدره، فالحمد لله على كل حال.

ولا أدري، لمَ تذكرت القاضي عبد الوهاب البغدادي، تـ٤٢٢ -رحمه الله وغفر له-؟؟


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١١/١٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق