الأحد، 11 يوليو 2021

وانقضّ كوكب صنعاء!

وانقضّ كوكب صنعاء!

العلامة الكبير، والقاضي النحرير، والفقيه الخطير، مجيزنا وشيخنا: محمد بن إسماعيل العمراني.. يغادر دنيانا الأفنة، وحياتنا العفنة، بعد عشرة عقود مباركة، قضَاها في أروقة الدرس، ثم قضّاها في ردهات التدريس: مفتياً، وقاضياً، ومعلماً، ومدرساً، ومجيزاً.. لا يكلّ ولا يمل، بأناة وصبر وتؤدة وورع ووجل، دون تسرع أو عجل!


يعرف فضل من سبقه من أهل العلم والمعرفة .. عفّ اللسان، بل منافحاً عن سبيل المؤمنين وعلمائه، من المتقدمين والمحدَثين!

صعَد إلى ذرى المجد بعلمه، وتصدر العلماء بفقهه، ونجم نجمه بفهمه، لم يتنكب طريقاً، أو يتنكف صديقاً، سليم قلبه على المسلمين.


شهدته، يأتي إلى مسجده (الزبيري) قبيل المغرب بردهة، فيصلي ركعتين في محرابه، ثم يرفع سجادته، ليتناول تحتها لفيفاً من مزع الورق وقطعها، وضعها هناك من أرداد التفقه والتثقيف، فيبدأ بالإجابة والرد على كل سؤال، دون تبرم أو يأس، ولا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً!

وهذه عادة بينه وبينهم، استمرت لسنوات!


أول زيارة له، كانت في ٢١ جمادى الأولى لعام ١٤٣٠، في مسجده بصنعاء.

سلّمت عليه، وأجازني، وحضرت له درسه بعد المغرب، الذي ظل سنوات بل ربما عقوداً، يحضره لفيف من الكبار والصغار، من القضاة والوزراء، ويفهمه الجميع!


وقد شرح في هذا المسجد.. كتباً كثيرة، كـ (بداية المجتهد) و(زاد المعاد) وبعض كتب الشوكاني، إلى غيرها من الأسفار الكبار.

وكنت أتحسر لفوات هذه الكنوز، ولكن هاتفني أحد الإخوة، في رمضان (١٤٤١) وأخبرني: أنهم كوّنوا لجنة من المشايخ والأساتذة؛ لإخراج كل تراث الشيخ، قال: وهم الآن في صدد الجمع، ولعله يكون في نحو من مائة مجلد!

فحمدت الله على ذلك، وشكرته، وشددت من عضده.

والله يوفقهم ويسددهم.


وقرّظ لي حينها، شرحي على (لامية ابن الوردي) كل ذلك، بخط يده المعلوم لدى طلبة العلم.


ولم يكن هذا الفضل كله، إلا بعد قصة طريفة ظريفة، جرت بيني وبينه، لم تخلُ من حدة وشدة، لكنها مشوبة بحرص وحزم، سرعان ما ذابت وزالت!


ثم توالت بعدها.. زياراتي له، تارة في بيته، وأخرى في مسجده المعلوم، وأحياناً، لم ألقه -وذلك لأمراضه الأخيرة المتكررة- فأرجع أجرّ أذيالي، دون تبرم أو يأس، بل أعود أخرى لمثلها.


آتيه بعض الزورات.. وهو يصلي في جماعة، على كرسي من التعب والكبَر!

وهكذا الأيام والكِبَر، تهدان الإنسان، وتفلاّن قواه، وتنهكان جسده!


إن الثمانين وبلّغتها *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان!


قلت: بل هو قد جاوز الثمانين، بل خنق المائة، بل تعداها بسنوات!


أهل الحديث طويلة أعمارهم *** ووجوههم بدعا النبي منضّرة


وحينها.. كنت آتيه، فأراه مقبلاً يجرّ خطاه جراً، ويسحبها في الأرض سحباً، ولا يكاد يرفعها عن الأرض،

حتى نهاديه يميناً وشمالاً، فيقعد على الأرض، ثم يستند إلى جدار، ويتكئ بنصف جسده على متكأ، ولتوه، يخرج قلمه؛ ليوقّع على فتاوي الناس!


وتعجب له، في هذا السن الطويل، وهو يحرص على نفع الآخرين، بل إني قرأت عليه، وهو في حاله هذا (الأوائل السنبلية) في جلسة واحدة، وكنت أحدِر قليلاً؛ خشية الانقطاع أو التقطع، فكان يستفهمني أحياناً، ويشير إلي بالتمهل، فاعجب!


ثم أقيم على كرسي، وأخذنا نسأله بعض الأسئلة، وهو يجيب بصوت شاحب خافت متهدج، قد أنهكه كثرة الكلام على مدار الأيام، من تدريس وتعليم.


ثم قطع المجلس.. بأن رفع يديه وصوته مكبراً: الله أكبر؛ لصلاة الضحى!

ثم نظر إلينا، قائلاً: قوموا صلوا صلاة الضحى "صلاة الأوابين"


ولا يزال كل يوم، يجلس في بيته صباحاً، حتى ما شاء الله؛ ليصادق على فتاوي الناس!


فسبحان الله، كيف يعطي الله هؤلاء العلماء، جلَداً على العلم وتبليغه.


فالشيخ.. طود شامخ، وقامة شادخة في العلم والفتيا، مع ظرافة ولطافة وإحماض.


والقاضي.. خزانة علم ومعرفة، وخزينة قصص وأمثال، ومخزن مآثر وآثار.


دروسه لا تمل؛ لاحتوائها على التأصيل والفكاهة، وفتاويه لا ترد؛ لما تحويه من الدليل والتعليل.


هو من الكبار الأساطين: قولاً وعملاً .. سناً وقدرا.


ولم أردْ في هاته العجالة الحزينة، أن أترجم له، فهذه ليس أوانها، وليست لي، بل لآخرين، عاشوا معه، وصحبوا أنفاسه، طيلة سنوات، فهنيئاً لهم.


رحم الله -شيخنا الجليل- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، ولقاه نضرة وسروراً، وكساه إستبرقاً وحريراً، وعوضه الله جنة الفردوس، كفاء ما أحيا من النفوس.


"إنا لله وإنا إليه راجعون"، و(إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)


وعزائي لأهله وذريته وطلابه وتلاميذه ومحبيه، بل لربوع اليمن أجمع، بله للعالَم الإسلامي كله، فهو شيخ الكل، وأستاذ الجميع، فالمصيبة عامة غامة، والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/١٢/٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق