الأربعاء، 20 يناير 2021

ذكر الأوجُه وتوجيه الأوجَه، في قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه"!

 ذكر الأوجُه وتوجيه الأوجَه، في قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه"! 


زكريا عليه السلام، نبي من أنبياء الله الكرام، كان قد بلغ وزوجه من الكبر عتيّا، ولم يرزقا بذرية تؤنسهما وتخلُفهما، ولكنهما مسلِّمان لأمر الله، متجملان لقدر الله.


ولما كفل زكريا مريمَ؛ كان كلما دخل عليها؛ وجد عندها رزقاً من الله لغذائها، من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها.

وهذا الرزق.. قيل: إنه فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.


عند ذلك؛ طمع زكريا إلى ربه الواهب الوهاب.. بالذرية، ورجا أن يرزقه من زوجه الولد، مع الحال التي هما بها وعليها؛ لأن ولادة العاقر، غير العادة الجارية في الناس.

فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرية طيبة.

(بتصرف كثير، من (تفسير الطبري: ٥/ ٣٦٠).


فأجاب الله دعاءه، ورزقه الولد، وزاده فضلاً منه سبحانه؛ أن أصلح له زوجه. 

قال تعالى -ممتنّاً على عبده زكريا-: "وزكریا إذ نادىٰ ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خیر ٱلوارثین * فاستجبنا لهۥ ووهبنا له یحیى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا یسارعون فی ٱلخیرات ویدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعین". 


وقد اختلفت آراء المفسرين، في المراد بقوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه".. 

وهاك ما يسره الله تعالى، من فتش ونبش، مع كدود الفكر، وشتوت الخاطر، وتغرب الجسد، وتحرب الروح!

الجسم في بلدٍ، والروح في بلدِ *** يا وحشة الروح بل يا غربة الجسدِ


والله المعين، وهو المستعان وحده لا رب سواه.


فأقول -وبالله التوفيق، ومنه التحقيق-: ذكر المفسرون، في قوله تعالى -في قصة زكريا عليه السلام-: "وأصلحنا له زوجه"؛ أربعة أقوال:


الأول: أصلحناها للولادة بعد أن كانت عاقراً.

الثاني: جعلناها مصلحة في الدين، ومعينة لزوجها.

الثالث: جملناها لزوجها، فحسنّا صورتها ومنظرها؛ لأنها كانت قد بلغت سن الشيخوخة. 

الرابع: أصلحناها من سوء الخلق والبذاءة، وسلاطة اللسان.


وحقيقة، اقشعر جلدي، وحمي جسدي.. حين وقعت عيني على من قال، أنها: كانت سيئة الخلق، أو سليطة اللسان؛ إذ أن هذا عرض مصون، وزوجة نبي ميمون؛ فلا تثبت هذه السيئة، إلا ببينة وبرهان -مثل ما قصه القرآن من خبر امرأتي نوح ولوط-.


أما أن تثبت هذه التهمة، على أثر ضعيف؛ فمعاذ الله! 

فالأثر: رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه! 

تعقبه الذهبي بقوله: "طلحة بن عمرو؛ واه". 

(المستدرك: ٢/ ٤١٥)


وقال ابن الملقن: فيه طلحة.

(مختصر تلخيص الذهبي: ٢/ ٨٦٣)


قلت: وهو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي..

قال فيه أحمد بن حنبل: لا شيء، متروك الحديث.

وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، ضعيف.

وتكلم فيه البخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، والجوزجاني، والنسائي، وابن الجنيد، والدارقطني، وابن حبان، وابن عدي وغيرهم.

ينظر: (تنقيح التحقيق: ٢/ ١٤٤).

قلت: فالأثر باطل، من حيث الإسناد؛ لوجود متروك.


أما من ناحية المتن..

فإذا نظرنا إلى سياق القصة وسباقها ولحاقها؛ وجدنا أن القصة كلها تدور حول أحداث الولد وما والاه، ولم تشر أبداً إلى بذاءة، أو سوء عشرة، أو سلاطة لسان! 


وهذه مواطن قصته عليه السلام مع زوجه -رحمها الله-:

قال الله تعالى عنه في سورة مريم: "رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا".


وقال الله عنه في سورة آل عمران: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء".


وقال تعالى عنه في سورة الأنبياء: "رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".


فهذه مواطن القصة، ليس فيها ما يشير إلى شيء من ذكر حسن أخلاق أو سوئها.


قلت: وجلّ كتب التفسير والحديث؛ ترجّح: أنها كانت عاقراً، بل بعضهم: لا يذكر سواه.


وهاك بعضاً منها:

قال مقاتل: ""وأصلحنا له زوجه" يعني: امرأته، فحاضت وكانت لا تحيض من الكبر". 

(تفسير مقاتل بن سليمان: ٣/ ٩١).


وقال الكلبي: "كانت عقيماً لم تلد شيئاً قط، فأُصلحت بالولد، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة"! 

(التفسير البسيط: ١٥/ ١٧٩) للواحدي.


وقال أبو عبيد الهروي: "قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه" يعني: من العقر، ألا ترى قوله تعالى "وكانت امرأتي عاقرا" فجعلها ولودا". 

(كتاب الغريبين في القرآن والحديث: ٤/ ١٠٩٠)


وذكر الماوردي في (النكت والعيون: ٣/ ٤٦٨) عن الكلبي، أنه قال: ولدت له وهو ابن بضع وسبعين سنة!


قال ابن عباس: "كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعاً وتسعين"! 

(تفسير الرازي: ٢٢/ ١٨٢). 


وقال العز: "وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وهي قريبة من سِنّه".

(تفسير العز بن عبد السلام: ٢/ ٣٣٦). 


ورجّح الرازي -بعد حكايته القولين-: صلاحها للحمل، قال: "وهذا أليق" وذكر، قول: أنها سيئة الخلق! ولم يعقب، ثم حكى قولاً ثالثاً، وهو: الصلاح في الدين، ثم علّل فقال: "فإن صلاحها في الدين، من أكبر أعوانه في كونه داعياً إلى الله تعالى، فكأنه عليه السلام، سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً، وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر؛ لأنه إذا قيل: أصلح الله فلاناً؛ فالأظهر فيه ما يتصل بالدين". 

(تفسير الرازي: ٢٢/ ١٨٢).


وقال ابن عادل: "وقيل: جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين، من أكبر أعوانه؛ لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا". 

(اللباب في علوم الكتاب: ١٣/ ٥٨٧)


وقال أبو منصور -بعد حكايته قولين-: "وأما قول من يقول: بأن في لسانها بذاء وطولاً، وفي خلقها سوءاً؛ فذلك لا يحل أن يقال، إلا بثبت، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم، حيث قال: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات" ثم المسارعة في الخيرات؛ أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها، إلا أن يمنعه شيء من شهوة أو سهو". 

(تفسسر الماتريدي: ٧/ ٣٧٢).


قلت: وقوله تعالى: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات"؛ تعليل إجابته سبحانه دعاءهم، وهي أخلاق تنافي سوء الخلق، وبذاءة اللسان؛ لأن تلك الأوصاف كانوا متّصفين بها قبل استجابة الدعاء، كيلا لا يقال: إن الله أصلحها له بعد الدعاء، فحسّن خلقها؛ فأثنى الله عليها!

لا، بل هي حسنة الخلق، صالحة الدين، قبل الدعاء، لكنه دعا الله تعالى بزيادة الصلاح، والتهيؤ للإصلاح، وإنجاب الذرية!


قال ابن عاشور: "فضمائر الجمع؛ عائدة إلى المذكورين، وحرف التأكيد؛ مفيد معنى التعليل والتسبب، أي: ما استحقوا ما أوتوه، إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير، وجدّهم في تحصيلها. وأفاد فعل الكون؛ أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم". 

(التحرير والتنوير: ١٧/ ١٣٦).


قلت: ولا مانع أن يكون المراد: أصلحنا زوجته: خَلقاً وخُلقاً -كما أشار السمين- لكن لا يلزم أنها كانت سيئة الخلق، بل زادها الله صلاحاً فوق صلاحها.

وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام -عن المهدي-: (يصلحه الله في ليلة) أي: يصلحه للخلافة، لا أنه لم يكن صالحا!


وقال شيخ الإسلام: "ولذلك؛ امتنّ الله على زكريا عليه السلام، حيث قال: "وأصلحنا له زوجه" وقال بعض العلماء: "ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله، في إصلاح زوجه له". 

(الاقتضاء: ٢/ ٨)


وقال أبو جعفر: "والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله أصلح لزكريا زوجه، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولوداً، حسنة الخلق؛ لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك بعضاً دون بعض في كتابه، ولا على لسان رسوله، ولا وضع على خصوص ذلك دلالة، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له، بأن ذلك مراد به بعض دون بعض". 

(تفسير الطبري: ٩/ ٧٩).


قال أبو نعيم: هذا ما كمل تحريره، وأكمل تحبيره، من نفي سلب عن امرأة نبي، ونأي ثلب عن زوجة صفي؛ بأدلة وارتباط، لا عن حدس واعتباط.

والله أسأل التبيين والتصيين، وإياه سبحانه أعبد، وبه أستعين، وإليه أستكين، وهو حسبي ونعم الوكيل.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤١/٤/١٢ م م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق