الخميس، 7 مايو 2020

وانتصف الشهر!

وانتصف الشهر!

انتصف الشهر، ونحن لم ننتصف من أنفسنا، وبعضنا لم ينصف القرآن!
وهكذا الأيام تترى، والليالي تنقضي، وهي تعمل فينا بالنقص، وكثير منا يعمل في نفسه النقص أيضاً، ولا يعمل في الأيام ليكمل!

رمضان يا قوم انتصَف *** فتداركوا ما قد سلف

وتزوّدوا لمعادكم *** قبل الندامة والأسف

وتذللوا لإلٰهكم *** فالذلّ للمولى شرف


"عباد الله.. شهر رمضان، قد انتصف، فمن منكم حاسب فيه نفسه لله وانتصف؟! من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟! من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له غرفاً من فوقها غرف؟

ألا إن شهركم، قد أخذ في النقص.. فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به، وقد انصرف، فكل شهر، فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان؛ فمن أين لكم منه خلف؟!

انتصف الشهر والهفاه- وانهدما *** واختص بالفوز بالجنات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسراً *** مثلي، فيا ويحه يا عظم ما حرما

من فاته الزرع في وقت البدار فما *** تراه يحصد إلا الهمّ والندما

طوبى لمن كانت التقوى بضاعتهُ *** في شهره وبحبل الله معتصما"
(لطائف المعارف: ١٨٣)

"ذهب نصف البضاعة في التفريط والإضاعة، والتسويفُ يمحق ساعة بعد ساعة! "والشمس والقمر بحسبان" "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"
يا واقفاً في مقام التحيّر.. هل أنت على عزم التغير؟
إلى متى ترضى بالنزول في منزل الهوان؟!
هل مضى من يومك، يوم صالح، سلمت فيه من جرائم القبائح، تالله لقد سبق المتقي الرابح، وأنت راض بالخسران.. عينك مطلقة في الحرام، ولسانك منبسط في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام، والكل مثبت في الديوان.
قلبك غائب في صلواتك، وفكرك ينقضي في شهواتك".
(التبصرة: ٢/ ٨٩) لابن الجوزي.


ارفعوا رؤوسكم، وانظروا البدر، وقد اكتمل نوره- وانظروا جماله، وشاهدوا كماله..
وتذكروا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم..
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُونَ في رؤيته.. فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا).
وفي رواية: (فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة).
رواه البخاري ومسلم.

ومن جميل النكات، وعجيب الموافقات -التي مرت أمام خاطري، حين تلاوتي هذا الحديث، ومشاهدتي الليلة، جمال القمر-:
أنه اجتمع في هذا الحديث.. الجمال والجلال والكمال:
فالمتحدَّث عنه.. هو الله جل جلاله، الجليل الجميل، وجماله وجلاله وكماله، وسع الكون، وشمل البشرية: أزلاً وأبدا.
وفي الحديث: (إن الله جميل، يحب الجمال). رواه مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

والمحدِّث به: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أجمل الناس على الإطلاق..
ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (ما رأيت شيئاً، أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسأله رجل: أكان وجهه، مثل السيف؟ قال: لا، مثل القمر).
انفرد بإخراجه البخاري.
وروى الإمام أحمد، عن أبي يونس، أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم- كأن الشمس تخرج في وجهه).
وقال جابر بن سمرة: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في ليلة أضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو أحسن في عيني من القمر) رواه الدارمي.
ينظر: (إمتاع الأسماع: ٢/ ١٦٩)

والراوي: جرير بن عبد الله البجلي اليمني، وقد كان من أجمل الصحابة، حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين أقبل وافداً عليه-: (يطلع عليكم، خير ذي يمن، كأن على وجهه مسحة ملك) رواه أحمد والحميدي.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: (جرير بن عبد الله.. يوسف هذه الأمة). رواه ابن سعد والخرائطي.

والمشبه به في الرؤية، لا في المرئي.. هو القمر، ودليل جماله: النص والحس، فالنص: ما تقدم، والحس: لا يعارضه إلا فاقد الحواس.

يا أيها البدر المسافر في الفلكْ ***ْ
هل لي بأن أرقى إليك لأسألكْ؟!ْ

من ذا الذي أهداك أجمل صورة ***
وحباك نوراً في الفضاء وجمّلكْ؟!


إخواني: اعملوا من الأعمال، ما يكون ثمناً للجنة، ومهراً للحور، لعلنا أن نفوز برضا الرحمن، والنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى- الذي هو أعظم نعيم، "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة".

إخواني: بقي في رصيدنا، من شهر رمضان- خمسة عشر يوماً، نرجوا الله بلاغها وتبليغها، وإحسانها وتحسينها، وإن ما بقي.. خير مما ذهب.

قال ابن عثيمين: "العشر الأواسط؛ أفضل من العشر الأول، والعشر الأواخر؛ أفضل من العشر الأواسط، وتجدون هذا في الغالب مطرد، وأن الأوقات الفاضلة؛ آخرها، أفضل من أولها، ويوم الجمعة؛ عصره أفضل من أوله، ويوم عرفة؛ عصره أفضل من أوله، والحكمة من هذا -والله أعلم-: أن النفوس إذا بدأت بالعمل، كلّت وملّت، فرُغِّبت بفضل آخر الأوقات على أولها.. حتى تنشط، فتعمل العمل الصالح. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح لنا ولكم الأولى والآخرة".
(اللقاء الشهري: ٧١).

ترحّل من شهرنا شطره *** وأعلن عن نأيه؛ بدرهُ

فجودوا، وجِدّوا، ولا تكسلوا *** فما زال في شهرنا خيرهُ

هذه كلمات، كتبتها على علاتها، ورقمتها على هيئاتها.. أعزي نفسي بما مضى، وأحث نفسي وغيري على اغتنام ما بقى.


اللهم كما أكرمتنا ببلوغ النصف، فتفضل علينا ببلوغ التمام، مع حسن العمل وقبوله، وطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم).
جعلني الله وإياكم، ممن يستدرك هذه الأيام بالطاعات، ويتعرض للنفحات، ويفوز بالجنات..
يا رب يا رب يا رب يا رب يا رب.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي..
١٤٣٦/٩/١٦
١٤٤١/٩/١٥



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق