الثلاثاء، 12 مايو 2020

رمضان: بين حجْرين!

رمضان: بين حجْرين!

تتلهف الأنفس، وتشتاق القلوب، وترنو الأعين.. لمجيء رمضان- الضيف الكريم، والزائر اللطيف!

وقد كان يقدم، هذا القادم الرحيب، والمساجد؛ مشرعة، والبيوت؛ مفتحة، والناس؛ في بهجة وارتياح!
وجاءنا رمضان، هذه المرة، ونحن -بحمد الله- في خير وعافية، ولكنه أتى، والعالم في حجر، عن شهود لياليه، وفي حظر، عن حضور أماليه!

ضجّت القلوب، وحزنت النفوس، ودمعت العيون؛ لإغلاق المساجد، ومنع التزاور، وعدم الخروج من البروج!

هذا الحجر الأول، وهو حجر عام، أصيب به أكثر العالَم، وهو يتعلق بالأجساد!

لكن، هناك حجر ثاني، وهو حجر خاص، وهو يتعلق بالأرواح!
إنه حجر الاغتراب عن الوطن، والغياب عن الأهل والولد، والنأي عن الوالدة والوالد!

إنه تألم الروح، وتعذب النفس، وتحير الفكر، وتشتت الذهن، فبينما الأرواح محبوسة في حيز من الجسد الضيق؛ إذ سجنت الأجساد الصغيرة، في مساحة ضيقة، من الأرض، لا تتجاوز الأمتار!
فهو حبس داخل حبس.. فخبروني؛ كيف التعامل مع الحبسين؟!
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته *** ولكنه سهم وثان وثالث!

إنني أغبط، من عنده أهله، في هذه الأزمة الخانقة.. نعم، أغبطهم؛ لأنسهم ببعض، والجلوس معهم الليل والنهار: يتضاحكون .. يتراكضون .. يتمازحون .. يتبادحون... إنه ملك حقيقي، فاحمدوا الله على هذا الملك العظيم.

غريب يقاسي الهمّ في أرض غربةٍ *** فيا ربِّ قرّب دار كل غريبِ


مررت اليوم، في صلاة التراويح، بقوله تعالى -عن أيوب عليه السلام-: "وآتيناه أهله ومثلهم معهم"؛ فسالت مآقي دموعها، وأبت نفسي هجوعها!

يا رب..
وآنسني بأولادي وأهلي *** فقد يستوحش الرجل الغريبُ

وقد هنا: للتكثير؛ لأن الاستيحاش، هو الغالب على المغترب.

والله، إني أشعر بغصة، وأحس بتنغيص؛ لحلول رمضان، وأنا ناء وقصي.
بل -والله- إن الدمعة لتتدحرج في عيني، والشجى يقف في حلقي، والضيق ينتابني.. 
ولكن: ثقتي بربي الكريم الرحيم سبحانه وتعالى، أن يخفف عني اللوعة، ويهدئ ما بي من التياع، وهو سبحانه فاعل ذلك لا محالة.

وإني تركت اختياري، لاختيار ربي العليم الحكيم جل وتقدس، فإن اختيار المرء لنفسه؛ يشوبه النقص والقصور، وينتابه الهوى والغرور..

أما اختيار الله سبحانه؛ فهو اختيار عليم حكيم حليم عليم رحيم كريم، يضع الأمور في مواضعها، وإن ظنها العبد ليست كذلك، وهو أعلم ما يصلح عبده.
وفي الحديث: (استضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجبت لأمر المؤمن- إن الله لا يقضي له قضاء، إلا كان خيراً له). رواه أحمد، وابن حبان، وإسناده صحيح.
ينظر: (معجم الشيوخ: ١٦٩) لابن جميع، و(سير أعلام النبلاء: ١٥/ ٣٤٢) تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط.

سلِ الله الإياب من المغيب *** فكم قد رد مثلك من غريبِ
سل الهم عنك بحسن ظنٍ *** ولا تيأس من الفرج القريبِ


وهو سبحانه، غني عن عذابي وعذابكم، فهو القائل جل وعلا: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما".
فالحكمة قد تغيب عن الخلق تماماً، وقد تظهر بعد مدة، وقد يرزق الله سبحانه عبده من الإيمان والإيقان، ما يهون عليه المصائب، ويصرف عنه المعائب.

عذراً، للإطالة، فهي سانحة سنحت على فكري الكليل، وجسدي العليل.. فأبديتها، على علاتها وهناتها.
رباه، تفريجاً وتخريجاً، منك وحدك لا شريك لك، فأنت المعين، وبك المستعان، ولا قوة إلا بك.


وكتب: المعنى: أبو نعيم.
١٤٤١/٩/٢٠

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق