السبت، 2 مايو 2020

إذلالٌ قسري وتمزيقٌ قهري!

إذلالٌ قسري وتمزيقٌ قهري!
نعي على بعض المتصدقين.. الذين يمتهنون المستَحَقين!


نظرت الآن عرَضاً لا قصداً، إلى مشهد رهيب عصيب، لسرب من العفائف، وبعضهن يحملن أولادهن، وهن مصفوفات، لا، بل كل واحدة بجانب كرتون صغير من التمر، أو حفنة من الدقيق، أو حثيات من السكر؛ ليأتي ذلك المصور المأجور بكاميرته المشؤومة؛ ليصور تلك المشاهد المخزية المشجية المدمية!

والله لم أتمالك نفسي، ولم يحتمل ضميري تلك المشاهد المقززة، لنساء فقيرات معيلات لا يملكن اللقمة، يخرجهن -بعض أهل الخير!، وهذا ليس فعل خير- يخرجوهن من بيوتهن وخدورهن؛ لإعطائهن كرتون تمر، أو سلة غذائية!

آه، للضرورة، ألا قبح الله الضرورة؛ فإنها توقّح الصورة!
قال عبيد بن عبد الله بن طاهر:
ألا قبح الله الضرورة إنها *** تكلّف أعلى الخلق أدنى الخلائقِ

آه، للفقر.. لو كان الفقر رجلاً لقتلته!
آه وآه، ثم آه آه.

أقولها، -وليقل مَن شاء ما شاء-: إذا كان فاعل الخير، والمتصدق- لا يتصدق إلا بهذه المشاهد الشادخة  للحياء، والمسيلة لماء الوجوه؛ فلا بارك الله له في ماله.

فإن إراقة ماء الحياة *** دون إراقة ماء المُحيّا

إذا كان المتصدق- لا يثق فيمن يخوله، فلينظر له آخر، وما عدم الصدق ولا الصادقون.
وإذا احتاج المتصدق إلى توثيق، فليكن بتصوير المواد أو السلل الغذائية، أو توقيع استلام، أما تصوير رجال ونساء وهم -ربما- يبكون، وفي موطن ذل وعجز؛ فإن هذا استغلال للضعف الإنساني!
لا يستبعد؛ أن يقف فاعل هذا الفعل، هذا الموقف الذي يأباه! وكما تدين تدان.

ورحم الله السلف الكرام، فلم تكن أخلاقهم، أخلاق القوم اليوم..
عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، أنه قال لصاحب له: إذا كانت لك إلي حاجة؛ فلا تكلمني فيها، ولكن اكتبها في رقعة، ثم ارفعها إلي، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل المسألة!

قال الشاعر:
لا تحسبن الموت موت البلى *** فإنما الموت سؤال الرجال

كلاهما موت، ولكن ذا *** أشد من ذاك لذل السؤال

وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني! أقبح الله المعروف.. إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك ترى دمه في وجهه، ومخاطراً، لا يدري أتعطيه، أم تمنعه، فوالله، لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته!
(القناعة والتعفف: ٣٢) لابن أبي الدنيا.

ولبعضهم: المعروف ابتداء، فأما من أعطيته بعد المسألة؛ فإنما كافيته بما بذل لك من وجهه- يبيت ليلته أرقاً متململاً، يتمثل بين الرجاء واليأس- لا يدري أين يتوجه لحاجته، ثم يعزم بالقصد لها، فيأتيك، وقلبه يرتجف، وفرائصه ترتعد، قد ترى دمه في وجهه، لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح!


ولا أظن التاجر والمتصدق، يستمتع برؤية هذه المناظر المقذعة، والخواطر المفزعة، ولكنها المبالغة من بعض المسؤولين، وحب الظهور، القاصم للظهور!

وعن الفضيل بن عياض: (ارحموا عزيز قوم ذل، وغنياً افتقر، وعالماً بين الجهال).

وروي هذا مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أوجه كلها ضعيفة.
(المدخل إلى السنن الكبرى: ٣٩٤)

فكم من عزيز، لا تنهنهه الجبال الرواسي، ولكن حصل له ما حصل من الآفات والأزمات!

وأين أنتم من قول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (إن صدقة السر؛ لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء) عن أنس رواه الترمذي وابن حبان وصححاه، وضعفه بعضهم، ولكن له شواهد كثيرة، يتقوى بها، أوردها العجلوني، في (كشف الخفاء: ٢/ ٢٩)

وقوله عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله، ومنهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.

بل إن فعلكم هذا من الأذى، ربما المبطل لأجر الصدقة، المبيَّن في قوله سبحانه: "يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"، وهذا من أعظم الأذى الذي لا يرضاه عفيف.
وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم".

قال الطبري: "قول جميل، ودعاء الرجل لأخيه المسلم، وستر منه عليه لما علم من خَلَّته، وسوء حالته.. خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه (يتبعها أذى)، يعني: يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها".
(تفسير الطبري: ٥/ ٥٢٠)

‏وقد سئل أحد الحكماء: هل هناك أقبح من البخل؟ قال: نعم، الكريم إذا تحدث بإحسانه، لمن أحسن إليه!
قلت: فكيف لو رأى الناس اليوم؟!


وأذكر، قبل مدة.. طلب إلي أحد الناس- أن أصوّر بعض الأُسَر، على أن يعطيهم سللاً غذائية؛ فرفضت بشدة، وقلت: والله لا أشتري عفتهم وعفافهم بمبلغ من المال، أو كيس من البر!

وبالمقابل، اتصل علي أحد الموسرين، وقال لي: اعط فلاناً مبلغاً من المال، وأسألك بالله، أن لا تخبره باسمي.
فشتان بين الموقفين!


والعجيب؛ أن البعض: يستدل بقول الله تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" على تصوير مشاهد البؤساء والفقراء!
وليس هذا استدلال صحيح، بل المراد: إظهار صدقتك أنت؛ ليقتدى بك في التصدق، لا إظهار المتصدَّق عليه وتصويره بحالة ذل وانكسار.

يقول الشيخ السعدي -في تفسير قوله تعالى: "فأما اليتيم فلا تقهر"؛ أي: "لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك".
(تفسير السعدي: ٩٢٨)

فهل تحبون أن يفعل هذا بأولادكم؟!، ولستم في مأمن من تقلب الدهر، وتصرف الأيام.

فيا أيها الناس، اتقوا الله في أنفسكم، وليضع كل واحد منا موضع هذا المصوَّر، أو يضع أخته أو زوجته أو أمه- موضع تلك المصوَّرة المسكينة العفيفة التي أخرجتموها من بيتها المكنونة؛ بحجة الإعاشة.. هل يرضى هذا المتصدق أو ذاك المخوَّل.. هذا الإذلال لنفسه أو لأهله؟!

روي أن مسروق بن الأجدع؛ ادَّان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة، وهو لا يعلم -خيثمة لا يعلم أن مسروق قضى دينه-، وذهب خيثمة، فقضى دين مسروق، ومسروق لا يعلم، فكل واحد قام بشأن أخيه من غير أن يعلم، وكلاهما صاحب حاجة.
(إحياء علوم الدين: ٢/ ١٧٤)


كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتحين العباد وهم سجود: أبا حازم، وصفوان بن سليم، وسليمان بن سحيم وأشباههم، فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه، فيقال له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول: [إني] [4] أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي وإذا لقيني.
(المنتظم: ٧/ ٢٣٠)

وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل، قال: «كان مورق العجلي يأتي بالصرر فيها الأربعمائة والخمسمائة فيودعها إخوانه ثم يلقاهم بعد فيقول §انتفعوا بها فهي لكم»
(الإخوان: ٢٢٠) لابن أبي الدنيا.

إني أقول لهؤلاء: إن الأيام دول، والدهر قلّب، والرحمن كل يوم هو في شأن (وكما تدين تدانكما تزرع تحصد

هذا كما يقال "كما تدين تدان" كما في (مجمع الأمثال: ٢/ ١٦٢) و"الجزاء من جنس العمل" كما في (الرضا عن الله بقضائه: ١٠٨) لابن أبي الدنيا.

ولا تظنن أنك بمأمن من الفقر أو الحرب، بل كل واحد يوطن نفسه على المكروه، حتى تهون عليه الشدائد، ولا -والله- لا أتمنى الشر لأحد، ولكنها ذكرى، لعلها تنفع "والذكرى تنفع المؤمنين"

إن هؤلاء العفائف يعشن العام كله على عمل رجالهن -ولله الحمد- أو تصدق بعض الأخفياء الذين لا يعرفهم الناس، لكن الله يعرفهم..
فيأتي شهر واحد يُحتاج فيه إلى كل هذه الزوابع!

يا هؤلاء، مَن تكونون عند المحسن الفاضل: عبد الرحمن السميط، فقد أغنى الله به ملايين، وأسلم على يده ملايين، ولم يفعل كأفعالكم الشوهاء.
فقد كان مرة -رحمه الله- في رحلة إلى القارة المنسية، فأراد بعض رفاقه تصوير توزيع المعونات؟!
فرفض الدكتور ذلك، وقال لهم: صوِّروا فرحتهم بدخول الإسلام، ودعوا انكسارهم أمام الحاجة!

الله أكبر، هذا هو سمو الأخلاق، والشعور بالآخرين، وإرادة وجه الله والدار الآخرة.

ويأيها الفقراء، لا تبيعوا عفتكم وحياءكم من أجل حفنة من الدقيق، أو كيلاً من الزيت، فخزائن الله ملأى، وما هؤلاء إلا أسباب فقط، "لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا" "ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا"
ولا أزايد على أحد، فكلنا -والله- محتاج، لكن أن يصل الأمر إلى الامتهان، فلا طاعة ولا إذعان. (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

هذه صيحة خرجت من صدري المتحشرج، وقلبي الزافر؛ لأضعها هنا، وسيهتدي بها من أراد الله هدايته "إن عليك إلا البلاغ"

وأرجو أن تصل رسالتي هذه للمتصدقين والمسؤولين على ذلك؛ حتى تكون سبباً في رجوعهم عن طريقهم الخاطئ الشانئ.
والله العاصم والقاسم.

(اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك) رواه الترمذي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحسنه الألباني، في (صحيح سنن الترمذي، رقم: ٣٥٦٣)


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٩/٩/٤
١٤٤١/٩/٩

هناك تعليق واحد: