الخميس، 23 أبريل 2020

الفرحة الرمضانية.. واجبة شرعية

الفرحة الرمضانية.. واجبة شرعية

رمضان: كلمة بهيجة، ولفظة مهيجة، تحبّها نفوس المؤمنين، وتأنسها قلوب المتقين، وترتاحها صدور الصالحين؛ لأن رمضان خير الشهور وأفضلها وأحسنها، وفيه من الفضائل والمزايا، والقرب من رب البرايا، ما يجعل المؤمن يزداد إيماناً: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون".
وهذا دليل على أصل الفرح والسرور، بمواسم الطاعة والخيور.

وإن الفرح بمواسم الطاعات والعبادات، والحزن على فواتها وفراقها؛ شأن معلوم، وحال مرسوم، لا يحتاج إلى إقامة الدلائل والبينات، ولا يكاد يختلف مسلم في تيك الميزات.

ومن لم يفرح بدخول رمضان وصيامه وقيامه، وتلاوة القرآن، والاستغفار بالأسحار؛ فليراجع نفسه، وليتفقد إيمانه، فإنه في خلل وخبل وخطل؛ لأن عدم الفرح بمواسم الطاعات والعبادات؛ يلزم منه كراهيتها، وحب أضدادها، وهذا دخل ودغل في النفوس -عافانا الله أجمعين-، "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم".

وإن الفرح بالطاعة، والحزن على السيئة؛ دليل على إيمان المرء؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرّته حسنته، وساءته سيئته؛ فهو المؤمن).
رواه أحمد، وصححه محققو (المسند: ١٤٤)

فالحذر من بغض هذه المواسم، أو الشعور بالخيبة، أو التنغص بها، أو الكراهة لها، أو التذمر منها، ولو في النفس والإسرار، ومن دون إعلان وإظهار؛ فإنها دسيسة يخشى على صاحبها من النكيسة، والحياة التعيسة -نسأل الله الثبات-.

وأنبّه، إلى أن البعض يفرح بمواسم الطاعات ليس لذاتها، وإنما لما فيها من قضاء مصالحه، وإنجاح مآربه،
فبعضهم: لبيع تجارته وربحها.
وبعضهم: لما فيه من زيادة المطعومات والمشروبات.
وبعضهم: لقضاء الحوائج.
وبعضهم: لما يروج فيها من المسابقات والجوائز.
وبعضهم: لما يكون فيها من الاجتماعات واللقاءات، والسهرات والسمرات.

وهكذا، كل يفرح بما يناسبه ويشاكله، وينسى المقصد الأعظم والأرشد، وهو الفرح لذات العبادة؛ لأن الله افترضها ووقّتها بهذا الوقت، فنفرح رمضان؛ للصلاة، والصيام، والقيام، وقراءة القرآن، والصدقات، والنفقات ونحوها من أنحاء البر والتقى.

قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
"قل بفضل الله" يعني: القرآن الذي أكرموا به "وبرحمته" يعني: الإسلام، "فبذلك" أي: فبمجيئهما "فليفرحوا" أي: لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع، "هو خير مما يجمعون" أي: من الأموال وأسباب الشهوات؛ إذ لا ينتفع بجميعهما ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون، والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء؛ فبهما فليفرحوا".
(تفسير القاسمي: ٩/ ٤٦)

وعن أيفع الكلاعي رضي الله عنه قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر رضي الله عنه، ومولى له، فجعل يعدّ الإبل، فإذا هو أكثر من ذلك، فجعل عمر رضي الله عنه يقول: الحمد لله، وجعل مولاه يقول: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر رضي الله عنه: كذبت، ليس هذا، هو الذي يقول: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" وهذا مما تجمعون".
(تفسير ابن أبي حاتم: ٦/ ١٩٦٠).

فبيّن -رضي الله عنه- أن جمع الأموال، ليس مما يفرح به، بل هو مما استثنى الله من الفرح، بقوله: "هو خير مما يجمعون" وهذا من ورع الفاروق العظيم وزهده.

وقال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، ولا يكون اطمئنان القلوب إلا من فرح وسرور، ونيل مطلوب، ونجاة من مرهوب.

وقال تعالى: "فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم" فهؤلاء فرحوا بما رزقهم الله من الطاعة واليقين.

وأنت أيها الفرِح بطاعة الله، لا شك أنك تعيش هذا الفرح في طاعة ربك؛ لأن الفرح بالطاعة وحبها من لوازمه: العمل بها، وإلا كان التناقض.

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيعُ

وأبشر بوعدِ الله لك أيها الفرح والطائع، قال الله: "أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه" يصدقها، قوله تعالى: "يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك قدحاً فملاقيه".

وأبشر بملازمة السرور لك، وأنت في الجنان، قال تعالى: "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسرورا". فهنيئاً لك هذا السرور: الدنيوي والأخروي.

والفرِح بالطاعة؛ تجده مسروراً مرتاحاً منشرحاً منبسطاً، هاشّاً باشّاً، يحب الصالحين ويحبهم، ويثني عليهم، ويثنون عليه، ولذلك: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
وفي رواية: (ويحبه الناس عليه).

قال النووي في (شرح مسلم: ١٦/ ١٨٩): "قال العلماء: معناه: هذه البشرى المُعَجَّلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيُحَبِّبه إلى الخلْق ...، ثم يوضع له القَبول في الأرض...".

ولا شك أن من كان هذا حاله؛ عاش حياة هنيئة مريئة، ولو كان فقيراً مُعدما.

وقال ابن الجوزي، في: (كشف المشكل من حديث الصحيحين: ١/ ٣٧١): "والمعنى أن الله تعالى إذا تقبل العمل؛ أوقع في القلوب قبول العامل ومدحه، فيكون ما أوقع في القلوب مبشراً بالقبول، كما أنه إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، وهم شهداء الله في الأرض".


وهكذا كان السلف الصالح، يشعرون بالفرحة، ويحسون النعيم من أثر العبادة:
"فما في الطاعة من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين.. أمر ثابت بالنصوص المستفيضة، وهو مشهود محسوس يدركه بالذوق والوجد من حصل له، ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرة موجودة.
حتى كان بعض السلف يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه.
وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم، ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال: إنه ليمر على القلب أوقات، يضحك فيها ضحكا.
وقال ابن المبارك وغيره: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله.
وقال آخر: أوجدني الله قلباً طيباً حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، فإنهم في عيش طيب.
وقال مالك بن دينار: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله.
وهذا باب واسع جدا".
ينظر: (تفسير ابن رجب: ٢/ ١٣٤)

أرأيت إلى هذا النعيم المعجّل لهؤلاء الفرِحين بطاعة ربهم، والعاملين بها -رباه ارزقناه-.

وقد جاء موضَحاً في حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير؛ إن أصابه سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). رواه مسلم.

وقال أبو الوفاء ابن عقيل: "الإعجاب ليس بالفرح، والفرح لا يقدح في الطاعات؛ لأنها مَسَرّة النفس بطاعة الرب عز وجل، ومثل ذلك مما سَرّ العقلاء، وأبهج الفضلاء، وإنما الإعجاب، استكثار ما يأتي به من طاعة الله عز وجل، ورؤية النفس بعين الافتخار.
وعلامة ذلك: اقتضاء الله عز وجل بما أتى الأولياء، وانتظار الكرامة، وإجابة الدعوة".
نقله عنه المفلح ابن مفلح، في (الآداب الشرعية: ١/ ١٣٢)

ورمضان خير ما يُفرح به ويؤنس، وينشرح له ويقبس؛ لما فيه من خصال البر والتقوى، ولا يعرف ذلك إلا المؤمن صادق الإيمان، وقد جاء منوهاً ومصرحاً.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مرّ بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه.
بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعدّ فيه القوة من النفقة للعبادة، ويعدّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين، واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن، يغتنمه الفاجر).
وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن، ونقمة للفاجر).
أخرجه أحمد، في (مسند أحمد، رقم: ٨٨٧٠) وابن أبي الدنيا، في (فضائل رمضان: ٤١) البيهقي في (فضائل الأوقات، رقم: ٥٤)، والطبراني في (الأوسط)، وابن خزيمة، وسكت عنه المنذري، وفي (نضرة النعيم: ١١/ ٥٢٤٧) "وقال الشيخ أحمد شاكر (١٦/ ١٥٨): إسناده صحيح" ولم أجده، فالله أعلم.

وجاء عن  أبي مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم وأهّل رمضان، فقال: (لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان).
قال ابن حجر، في (المطالب العالية: ٦/ ٤٢): "أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وقال: إن صح الخبر فإن في القلب من جرير بن أيوب.
وكأنه تساهل فيه. لكونه من الرغائب".


بل قد جاء التصريح، بالفرح في رمضان، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه". رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن رجب: "أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر؛ فرحتْ بإباحة ما منعت منه؛ خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً، فإن كان ذلك محبوباً شرعاً، والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام- تناول هذه الشهوات؛ فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها من أول الليل وآخره، فأحب عباد الله إليه؛ أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترم شهواته في النهار؛ تقرباً إلى الله وطاعة له، وبادر إليها بالليل؛ تقرباً إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع في الحالين؛ ولهذا نهي عن الوصال، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله؛ فإنه ترجى له المغفرة، أو بلوغ الرضوان بذلك".
(لطائف المعارف: ١٥٦)

وقال -رحمه الله-: "وإن نوى بأكله وشرابه؛ تقوية بدنه على القيام والصيام؛ كان مثاباً على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار؛ التقوِّي على العمل؛ كان نومه عبادة.
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه؛ لم يتوقف في معنى فرحه عند فطره، فإن فطره على الوجه المشار إليه؛ من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
(لطائف المعارف: ١٥٧)

وقال -رحمه الله-: "وأما فرحه عند لقاء ربه؛ ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً؛ فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا"، وقال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا"، وقال تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره".
(لطائف المعارف: ١٥٧)

ولا تخفى قصة ذلكم الصحابي الذي توفي بعد صاحبه بسنة، ففضل على صاحبه؛ لأنه فعل خيرات، ومنها: أنه صام رمضان؛ فهذا مما يدعو المؤمن للفرح، واغتنام مواسم الطاعات.

قال ابن رجب: "بلوغ شهر رمضان وصيامه؛ نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فو الذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض"، أخرجه أحمد وغيره.
من رُحِم في شهر رمضان؛ فهو المرحوم، ومن حُرم؛ فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده؛ فهو ملوم).
(لطائف المعارف: ١٤٨).


وحريٌ بالعاقل- الذي يسمع هذا الفضل العظيم، ويفرح بهذا الفضل العميم؛ أن يُفرح إخوانه وخلانه؛ بتفقدهم، والسؤال عن أحوالهم، ومواساتهم، والتخفيف عنهم بما يستطيع، ولا يكون أنانياً كزاً، جلفاً غليظاً، صلداً صلباً؛ فإن فرحه من فرحهم، وحزنه من حزنهم؛ لأن هذا شأن المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) رواه البخاري ومسلم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.


هذا ما أقدرني الله عليه -وله الحمد والمنة-، وأسأل الله التوفيق والرشاد، والهداية والسداد، وعلى الله الكريم اعتمادي، وإليه تفويض أمري واستنادي.
وأسأله تعالى أن يرزقني الإخلاص والمتابعة في جميع الأقوال والأفعال والأحوال.

والله أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
كتبته: ١٤٣٧/٩/١
وراجعته: ١٤٣٩/٨/٣٠
وراجعته: ١٤٤٠/٩/٣
وراجعته: ١٤٤١/٨/٢٩

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق