الاثنين، 27 أبريل 2020

المَقامة الرمضانية، والمُقامة الرمضائية!

المَقامة الرمضانية، والمُقامة الرمضائية!


أقبلتَ يا رمضان، ومضيفُوك في أحزان!

قال لي صديقي الفهيم المزدان: هل لك -أبا نعيم- بكلمة عن رمضان؟

قلت له: إن صفوي معكّر، وخاطري مكدّر، وجسمي مخدّر، فلا أقوى على الحديث أو التحديث؛ لأن تشوش التفكير، يمنع من حسن التعبير!
فأصرّ حتى أضجر، وألحّ حتى أصحر!

فقلت هذا الكلام، من طرف الثمام، بعد استدعاء، وطول استجداء، "وعلى الله قصد السبيل"، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وهي آهات حرّى، وأنات جرّى، كتبتها مستقبلاً ضيفي، ومستنزلاً غيثي، ومعزياً نفسي، ثم بني جنسي:

رمضان مرحى وأهلا، ومرحباً وسهلا.
حيّاك الله وبيّاك، وأنعم بك وأكرم، وأشرف وأعظم.

حللتَ أهلاً، ونزلت سهلاً، وعلى الرحب والسعة، والراحة والدعة.


بشرى العوالم أنت يا رمضان ُ *** هتفت بك الأرجاء والأكوانُ

لك في السماء كواكب وضاءة *** ولك النفوس المؤمنات مكانُ

سعدت بلقياك الحياة وأشرقت *** وانهلّ منك جمالها الفتّانُ
(حسين عرب)

نحبك، ونحب مجيئك، ونأنس بك، ونرتاح معك، ونرغب إليك، ونبارك عليك..

نشكر زورتك، ونحمد دورتك، ونمدح بدرتك.

أفرحنا مأتاك رغم الجراح الدامية، وسهام الأعداء الرامية، ولم يكن في وسعك أن تتأخر لحظة، أو تتعقب غمضة؛ "ذلك تقدير العزيز العليم" "وهو العزيز الحكيم".

وأملنا في ربنا كبير وكثير، أن يكونَ مأتاك.. تخفيفاً لآلامنا، وتسليةً لأحزاننا، وتضميداً لجراحنا، ومداواةً لأمراضنا.
وأن يكون مجآك.. انتشالاً من وهْدتنا، وإيقاضاً من رقْدتنا، وتنبيهاً من غفْلتنا.


عام ونحن على الأشواق ننتظر *** لا السمع أدرك ما نرجوا ولا البصرُ

ولا الأماني في تجوالها نعمت *** برحلة لم يشوه حسنها كدر

ولا الصفاء بنا عادت محافله *** تجتاح ما بقلوب الحقد تستعرُ

ولا أمنّا بليل والمدى خطر *** ولا طربنا وبوح الملتقى ضجرُ
(ياسين الفيل)


نحبك يا رمضان، رغم الصعاب والخطوب، واحتدام الحروب، واشتداد الندوب، وتلاحق الكروب!

نحبك يا رمضان، رغم رمض الرمضاء، واعتلاء الرحضاء؛ ولا تخفيف لدينا من ذلك -والحمد لله-؛ فكهربتنا منقطعة، وخطوطنا مهترئة ممتنعة، وأخوّتنا متكهربة ممتزعة!
فلا بلاغ لنا إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.

أتيتنا يا رمضان، وعواصم العالم الإسلامي العربي الثلاث: دمشق، وبغداد، وصنعاء، بل وعواصم أخرى- تدمى وترعف، وتهمى وتنزف- تنكر منها وتعرف!

جئتنا يا رمضان، والبلاد التي تطلّ عليها، ويظهر بدرك فيها- في احتلال واختلال، بل هي مكلومة الجناب، ومهيضة الجناح، ومقطوعة الوريد، ومطعونة الخاصرة!
والعالم العربي والإسلامي.. ينظر إليها في تأرنح وتأرجح، وربما في تبجّح وتوقح!
وكأني بهم، بعد: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)!


رمضان ما أدري، ونورك غامر *** قلبي، فصبحي مشرق ومسائي

أأنال بعد مثالبي ومساوئي *** بك منهما بعد القنوط شفائي

وبأنني سأنال منك حمايتي *** ووقايتي من معضل الأرزاءِ

ما أنت إلا رحمة ومحبة *** للناس من ظلم قسا وعداءِ
(محمد حسن فقي)


نعلم يا رمضان، أنك كنت في قديم الزمان؛ زمن عز ومكنة، وفتح بلدانٍ وأمكنة.

كانت في أيامك؛ مواقع ساحقة، ومشاهد ماحقة للكافرين، ونحوهم من الأعداء، "والله يؤيد بنصره من يشاء".
وقد كان أولئك الأشاوس، وذياك القدامس.. هم من يتعرضون لنصر الله، ويعملون بأسبابه، بطاعة الله: "يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" فعل وشرط، فلما حصل الفعل، كان الشرط، "وعد الله لا يخلف الله الميعاد".
هذا السبب الإيماني، وهو الأهم والأعم.

والسبب الآخر: السبب المادي، لدحر الأعادي، وهو: إعداد القوة، ولو كان على أحدهم اللقوة، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". ولا بد من اجتماع السببين، وإلا صرنا في الجبين، وبين جببين!

ولم يُعلم أن معركة أو وقعة في رمضان؛ هزم فيها المسلمون، بل كان النصر طليبهم، والفتح رحيبهم.
ففي أكثر من عشر وقعات، كان فيها النصر والثبات، وكسر الجمائم، ونزع العمائم، حتى ولى الأعداء مدبرين، ورجعوا متقهقرين!


ظهر يا رمضان، بدرك عليهم، وهم: متآزرون متجاورون، ومتكاتفون متعاونون، وقد عملوا، بقول الله تعالى: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، فاجتمعوا واعتصموا، وتآخوا ولم يختصموا؛ فنصرهم الله تعالى وانتصفوا وانتقموا.


واليوم يا رمضان، بدوت علينا، وبدرت إلينا.. ونحن في تشردم وتدمدم، وانفصام واحتدام، يأكل بعضنا بعضا ... يقتل بعضنا بعضا ... ويكيد بعضنا لبعض، ويُسْلم بعضنا إلى بعض!
ورسولنا عليه الصلاة والسلام، يقول: (المسلم أخو المسلم؛ لا يكذبه، ولا يخذله، ولا يسلمه، ولا يحقره)!
رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

البلاد تسلب، والمتاع ينهب، والرجال تسحب، والنساء تنتطف، والأطفال تختطف، والأديان تغيّر، والشرائع تعيّر، وإخواننا يستغيثون، فلا يغاثون، ويستعينون فلا يعانون!

ماذا حلّ بنا ... ما الذي دهانا ... ما أصابنا؟!
لم هذا الخنوع والخضوع والركوع؟

لا أدري، سوى أني أقول: إن قومي طال بهم الأمد، "فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم"، فركنوا إلى الدنيا، ونسوا الأخرى (وحب الدنيا؛ رأس كل خطيئة)!

وصدق الحبيب عليه الصلاة والسلام، حين قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم -أو حتى ترجعوا إلى دينكم-)!
رواه أحمد وأبو داوود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وها نحن أتينا وجئنا، على ما أخبر به نبينا، صلى الله عليه وسلم، الذي "ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى".

هذا ما كان من الكلام الأرم، في العام المنصرم.. (١٤٤٠)
ولا زال الوضع الآن، ربما، أسوأ مما كان!


أما هذا العام (١٤٤١)؛ فالأمر في أوام وسوام، بل جاءنا رمضان، ونحن في مرضان!
المرض الأول: خاص ببلاد اليمن -أذهب الله عنها الحزن والشجن-؛ فقد جاء هذا الضيف، في بدو الصيف، ولا عجب من ذلك، ولا غرب، ولكن الأسى والقسى، أن بلادي الجريحة، لا زالت في حال غير مريحة!
فالأجواء حارة، والكهرباء قارة! هذا في أرض التهائم، وبلاد أولي العمائم!
ومواطن أخرى، نزل بهم من البلاء، ما أودى ببعضهم إلى البِلى، مع تهدم المنازل والبيوت، وتخرب المساكن والخبوت، حتى السيارات سحبت، والمركبات حبست!
فلا بلاغ إلا بالله الجبار الغفار.


والمرض الآخر: عام ببلاد العالَم؛ فقد أتاهم رمضان، وهم في وباء ومرضان.. أهلك المال، وقضى على العيال، وأودى بالصغار، وأردى الكبار!
حبس الناس في البيوت، حتى أصيب البعض بالوسواس والهموت، والمساجد خالية، والموارد فاغية، حتى الحرم المكتظ بالزحام، يشكو اليوم الهجر والصرام!
ولا بلاغ إلا بالله الغافر الغفار.


وأملنا العظيم الكبير، في ربنا الحكيم الخبير.. أن تنقشع الغمة، عن الأمة، وترفع الآثمة، وتدفع الجاثمة، وتستقر اليمن، وتزول عنها الفتن والإحن، ويذوب الشجن والحزن، وتحل الخيرات الكبيرة، على بلاد الإسلام الكثيرة، والله عند ظن العبيد، إذا أحسنوا الظن بالحميد المجيد، وأخلصوا له العبادة والتوحيد.


أطلتُ عليك ضيفي -الكريم العظيم الفخيم-، ولكن الحبيب يأنس بحبيبه، ويشكو لرحيبه!
فاعذرني على الإطالة، فلم أجدْ -سواك- من يسمع مني هذه الإطلالة؛ فلك شكوت، وإليك خطوت.

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


كتبه: من بك معنّا وإليك صابي: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٨/٢٧
١٤٤١/٩/٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق