السبت، 21 مارس 2020

قراءة في سيرة الطبيب الحكيم: حسني سبح!

قراءة في سيرة الطبيب الحكيم: حسني سبح!


قرأت في سيرة هذا الرجل العصامي: حسني بن يحيى سبح.. مما جمعه تلميذه الطبيب صادق فرعون..

فوجدت فيها خصالاً مجيدة، ومواقف مفيدة.. تصلح أن تكون مُثلاً للشادين، ومثلاً للجادين.

وهذا ما سجلته بعد قراءتي سيرته، في جلسة واحدة، فصلتْ بينها صلاة المغرب -في البيت، بسبب فيروس كورونا، نسأله سبحانه اللطف والعطف-، فخذها دون ترتيب أو تشذيب.
أقول: لمست وحسست في سيرته، ما يلي:

-النشاط العجيب، ونفض الفراش عن جسده، وإزالة الوسن عن عينيه؛ ليصافح النجوم، ويتربع على معاقد العز!
والعجب، أن يدرس الطب وهو في الثالثة عشر من عمره الطويل المبارك. وكان يتقن خمس لغات: العربية، والإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والتركية!

-حب العمل، والسعي الدؤوب.. فقد خدم حكومته وشعبه، خمساً وستين سنة، وهو في سلك التدريس والتطبيب والكلية والجامعة والمجمع.

-العمل بصمت مع الخفاء، والبعد عن الأضواء!
ولعمري، إن هذا آية إخلاص.

-الرفق بالآخرين، والإحسان إليهم، والشعور بهم، ومعالجتهم دون نظر إلى مال أو رياش -وهكذا هي وصيته الرائعة لخرّيجيه- التي يقول فيها: "أنهيتم دروسكم الطبية... وخرجتم إلى ميدان العمل- إنكم تخطئون إذا ظننتم، أنكم أنهيتم التحصيل، وأغلقتم باب الدرس- إنكم قد أنهيتم تحصيلكم في هذه المدرسة، وبدأتم الدرس في مدرسة ثانية، -أعني: مدرسة العالَم-، وأمامكم الآن، فحوص أخرى، وليس الفاحص أستاذكم، بل المريض الذي يأتيكم مستشفياً، وستدوم هذه المدرسة ما دامت الحياة، والخُطا الواسعة التي يرغب كل واحد منكم أن يخطوها تكون بما أعدّه لها من عدة، وما هذه العدة إلا بأمرين: الأخلاق الحميدة، والعلم الصحيح، وقد قدمت الأخلاق على العلم؛ لأن العلم لا يجدي الطبيب نفعاً، إذا كان خلواً من الأخلاق، غير متحلٍ بالفضيلة.
فعليكم أولاً: أن تتمسكوا بالفضيلة، وتتحلوا بالأخلاق الحميدة، وتجعلوا نصب عيونكم؛ خدمة الإنسانية المتألمة، بدون تفريق بين الشعوب والأديان!، لا تكونوا ماديين، ولا تسعوا إلى المادة- ساعدوا الفقير جهد طاقتكم- ارفقوا بالضعيف، ولا تردوا طلب بائس.
إنكم تعلمتم، ولا شك، الشيء الكثير، فإذا لم تثابروا على العلم؛ جفت معارفكم، ونضب معين علمكم. علیکم بالاختصاص؛ فهو سر النجاح.
انبذوا الكبرياء جانباً، ولا تأنفوا من السؤال والاستفادة، بل عدّوا أنفسكم دائماً تلامذة، و اسألوا من كان أوسع منكم علماً، واعلموا أن فوق كل ذي علم عليم، (وقل ربي زدني علما).

"أيها المجازون -في هذه السنة-: بعد قليل، ستتسلمون شهاداتكم المشعرة بانتهاء دراستكم، وقد برحتم مقاعد الدرس إلى أمكنتكم في معترك الحياة.
ها إن حياة العمل، تفتح لكم بابها على مصراعيه، فادخلوها آمنين، بعد أن أعددتم لها هذه العدة، وتزودتم بهذا الزاد، ولا يغرنكم ما أصبحتم حامليه من لقب، ولا تأخذنكم الخيلاء بما وصلتم إليه من مرتبة، فحياة العمل تتطلب جهداً متواصلاً وإقداماً، والجمع ما بين العلم والعمل.
وعما قريب، ستقطفون ثمار جهدكم في ربيع الحياة- والثمر يعود بعضه على أشخاصكم، وعلى أسركم، ويعود بعضه الآخر، -وهو الأهم-، على وطنكم الذي يتلهف إلى رؤية أمثالكم؛ ليخدموه بعلم وإخلاص، وعلى أمتكم التي ترنو إليكم بعين ملؤها الأمل والرجاء...".

-الوفاء بالوعد، حتى وهو على فراش مرضه الذي مات فيه!
يدخل عليه تلميده، الدكتور صادق فرعون، في مرض موته، فيبادره بقوله: "أن يسرع، فيتصل بالأستاذ شوكة القنواتي، ويذكر له ويبلغه، أن زميله الأستاذ سبح، ما يستطيع أن يذهب لزيارته التي وعده بها؛ لأنهم أتوا به فجأة إلى هذا المستشفى وهو في طريقه إلى مجمع اللغة العربية"!
وكان بينهما لقاء كل خميس.

وفي مقدمة الجزء الأخير، من معلمته الطبية، يقول: "إني بإقدامي على طبع هذا الجزء السابع والأخير من سلسلة (علم الأمراض الباطنة)، وإخراجه إلى حيز الوجود.. أفي بوعد مسبق لي أن قطعته عام ١٩٣٥، عندما أصدرت الحلقة الأولى من السلسلة، ذاك الوعد الذي طالما طالبني بإنجازه طلاب كلية الطب في الأمس، وزملائي اليوم.
وعلى ذلك، فقد انقضى بين الوعد وتحقيقه.. اثنتان وعشرون سنة، تحكمتْ في خلالها عوامل عدّة لم يكن بالإمكان، اجتناب أثرها".

وكان لشدة حرصه على الوفاء بالوعد؛ أن جعل له جدولاً بأعماله اليومية المختلفة، يؤديها في أوقاتها دون تخلف، وكان يحدث أصحابه ببركة هذا الالتزام!
قلت: وهذا خلق مضيّع في زمننا، لدى الكثير والكثير من الناس، بله من طلبة العلم!

-حسن العهد، فلا يلمّ بأحد مرض، فيعالجه، إلا انتظمت زيارات الدكتور له على غير العادة، حتى يطمئن على شفائه؛ ذاكراً حديث: (إن حسن العهد؛ من الإيمان).

-أمانة المهنة؛ فلم يكن همه المال، أو الشهرة، أو الظهور، بل كان قصده: بذل ما يمكنه لشفاء الآخرين، دون استكثار من الأدوية -كما هو صنيع بعضهم-؛ لغرض المتاجرة بأرواح الناس، بالاتفاق مع العيادات والمستشفيات.

وقد أرجأ إبرام عقد، لشراء أجهزة طبية؛ لاستغلال الشركة البائعة لمن قبله، وذلك لجهله بقيمتها، حتى أرجع ثلاثين ألفاً إلى الكلية!

-أمانة الكلمة، فحينما قرأ تعريب (معجم كليرفيل) الطبي.. رأى فيه بعض الهنات والملاحظات، فكتب نظراته حوله، في سبع وستين مقالة، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، نشرها، في (مجمع اللغة العربية)، ثم جمعها في كتاب ناف الألف!

-الاعتزاز بلغته العربية، بل وجعلها هي لغة الطب، الذي عزّ أن تكون كلية طبيه بالعربية سواها، وكان ذلك بهمته القعساء!

يقول في مؤتمر القاهرة الطبي: "واللغة... ومن ورائها وحدة الثقافة-؛ هما الأساس المكين الذي ينبغي أن يبنى عليه صرح الوحدة العربية المنشودة، وإذا تركنا نحن معاشر الأطباء- أمر تحقيق هذه الأمنية الغالية (أي: الوحدة العربية)، إلى الزمن، وإلى رجال السياسة، فعلينا واجب تمهيدي، نكون مسؤولين أمام الله، والتاريخ، والأجيال المقبلة إذا لم نشمر عن ساعد الجد لتحقيقه، أعني: به توحيد الثقافة، وإحلال لغتنا العزيزة المكان اللائق بها، والناطقون بالعربية قوم واحد، مهما اختلفوا في المنشأ والسلالة ومسقط الرأس".

وقد أرسل إليه رئیس جامعة عربية في قُطر شقيق، رسالة في أمر هام، أرسلها باللغة الإنكليزية، فامتعض، ورد إليه هذا في الجواب: "أنت عربي، من قطر عربي، وفي جامعة لغتها الرسمية- هي العربية، وأنا كذلك؛ فتفضل واكتب إلي بالعربية- لغة بلادك وبلادي، في حكم الدستور"!

-تشجيع طلبته، والأخذ بأيديهم؛ ليكونوا غداً زملاءه، بعد أن كانوا بالأمس طلابه، بل صرح بهذا الخلق النادر!
وهو لا يجد في ذلك غضاضة، كما يجدها بعض صغار النفوس!

-الأناة والتؤدة؛ لأن همه الكيف لا الكم، وربما جمعهما؛ لإتقانه لهما..
فهو يصنف معلمته الطبية، في (علم الأمراض الباطنة)، في عويصها وحزونها، في سبعة مجلدات= وقد مكث فيها نحو ٢٢ عاماً! من سنة ١٣٥٤هـ إلى سنة ١٣٧٦هـ.

وحينما قرأ تعريب (معجم كليرفيل) الطبي.. رأى فيه بعض الهنات والملاحظات، فكتب نظراته حوله، في سبع وستين مقالة، نشرها، في (مجمع اللغة العربية)، على مدى ثلاثة وعشرين سنة، بدأها سنة ١٩٥٩م إلى ١٩٨٢م، ثم جمعها في كتاب ناف الألف!
بالإضافة إلى تواليف أخرى، ونحواً من (١٥٧) مقالاً!


-وأخيراً.. فقد كان الرجل مثال الدقة والترتيب في حياته!
وسبحان الله، عندما نظرت إلى تواريخ في حياته؛ وجدتها تشي بدقة وترتيب، دون إرادة منه وقصد!
فمثلاً:
*ولد سنة ١٣١٧هـ /١٩٠٠م وتوفي ٢٩ ربيع الثاني ١٤٠٧هـ/ ٣١ كانون الأول ١٩٨٦م

*تولى رئاسة المجمع عام ١٩٦٨م حتى وفاته عام ١٩٨٦م.

*انتسب في النادي العربي، في (١٠ جمادى الأولى ١٣٣٧هـ /١٠ شباط ١٩١٩م).

*قضى سبعين عاماً في وظائفه لا يتخلف عنها.

*توفي في ١٩٨٦/١٢/٣١م.


هذه بعض قطف قراءتي، لكتاب (الأستاذ الدكتور حسني سبح.. أحد أساطين تعريب العلوم الطبية)، تأليف تلميذه الدكتور صادق فرعون.

أرجو أن يكون فيها إشارة إلى وميض من حياته الصادقة، ومواقفه الصادعة، وأرجو أن نكون متبعين خطى الأسلاف في شتى ينابيع المعرفة، ومرابع العلوم.

وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٧/٢٦


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق