الأحد، 15 مارس 2020

اليواقيت الثمانية!

اليواقيت الثمانية!

في صدد قراءاتي.. كتب السير والتراجم.. تمرّ بي بعض الأعلام المتشابهة السُّمات، المتباينة السِّمات، وهو ما يسمى في علم مصطلح الحديث، بـ المتفق والمفترق.. فأدوّن ما وجدته من ذلك، -وقد تجمع لدي أشياء-.

ولعل من أعجب ما مرّ بي، من هذه البابة، هو تعداد، من تسمى، بـ ياقوت بن عبد الله!

ولما رجعت قاصداً البحث عنهم، ومعرفة كنههم، وجدت ثمانية منهم؛ فأردت إتحاف الولاّف، بهذه التحاف..


الأول: أمين الدين، ياقوت بن عبد الله الرومي النوري الشرفي الموصلي الملكي النحوي الكاتب، تـ ٦١٨، بالموصل، وكان قد سكنها، ويلقب: ياقوت الكبير.
كان من موالي السلطان ملكشاه بن سلجوق بن محمد بن ملكشاه.

قرأ العربية على الإمام أبي محمد سعيد بن المبارك ابن الدهان، وبرع فيها، وقرأ كتاب "المقامات" و "ديوان المتنبي".

وكتب الخط المنسوب، ونسخ نسخاً عديدة لكتاب "الصحاح" للجوهري، كل نسخة في مجلد واحد، وكانت النسخة تباع بمائة دينار.

وكتب بخطه الكثير، وانتشر خطه في الآفاق، وكان خطه في نهاية الحسن.

قال ياقوت -عن ياقوت هذا-: "اجتمعت به في الموصل سنة ثلاث عشرة وستمائة؛ فرأيته على جانب عظيم من الأدب والفضل والنباهة والوقار، وقد أسن، وبلغ من الكبر الغاية، ورأيت كتباً كثيرة بخطه يتداولها الناس، ويتغالون بأثمانها".


وكانت له سمعة كبيرة في زمانه، وكتب عليه خلق كثير، ثم تغير خطه من الكبر كثيراً بعدما أسن وشاخ.

ولم يكن في زمانه من يكتب ما يقاربه، ولا من يؤدي طريقة ابن البواب مثله، مع فضل غزير ونباهة.

من آثاره: رسالة في الخط.

ينظر: (معجم الأدباء: ٦/ ٢٨٠٥) و (تاريخ الإسلام: ١٣/ ٥٦٦) و (شذرات الذهب: ٧/ ١٤٨).

وهناك دراسة عنه وعن خطه، بعنوان: مخطوط عربي فريد، بقلم ياقوت النوري الموصلي- الملامح الفنية لخط ياقوت المصولي: دراسة تحليلية، من عمل الدكتور نصار محمد منصور.

                         ***

الثاني: مهذب الدين، أبو الدر، ياقوت بن عبدالله الرومي الشاعر، تـ٦٢٢، في بغداد.
كان مولى لأبي منصور الجليلي التاجر، وتعلم في المدرسة النظامية.

ولما تميز ومهر؛ أراد تغيير اسمه فتسمى (عبد الرحمن) ولكن اسمه الأول (ياقوت) غلب عليه.
وعده ابن الدبيثي في كتاب "الذيل": في جملة من اسمه عبد الرحمن.

نشأ ببغداد، وحفظ القرآن العزيز، وقرأ شيئاً من الأدب، وكتب خطاً حسناً، وقال الشعر، وأكثر النظم منه في الغزل والتصابي وذكر المحبة، وراق شعره وتحفظه الناس.

وكان مقيماً بالمدرسة النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم وأكثر من الأدب، واستعمل قريحته في النظم؛ فأجاد فيه.

وكان تالياً للقرآن، مشغوفاً بمذهب الإمامية، والتعصب لهم، كثير الميل إلى أهل البيت، سيّر فيهم عدة قصائد، اشتهرت في البلدان، ومدحهم مدحاً كثيراً.

وكان مع ذلك يحفظ كل غريبة ونادرة، ويذاكر بالأشعار، وملح الحكايات.

وُجد في داره ميتاً، وكان قد أخرج من النظامية، فسكن في دار بدرب دينار الصغير، ولم يعلم متى مات، ويظن أنه ناطح الستين، ومات عزباً، لم يتزوج قط.


ينظر: (معجم الأدباء: ٦/ ٢٨٠٤) و (وفيات الأعيان: ٦/ ١٢٢) و (قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان: ٢/ ٢٦٧) لابن الشعار.

                        ***

الثالث: شهاب الدین، أبو عبد الله، یاقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي المؤرخ، تـ٦٢٦، في حلب.
كان مولى لدى بعض التجار، ببغداد يعرف، بـ عسكر بن أبي نصر إبراهيم الحموي.

وفي مرحلة متأخرة؛ سمى نفسه (يعقوب)، إلا أن اسمه (ياقوت) ظل أغلب عليه.

وقد أُسر من بلاده صغيراً، وابتيع ببغداد، وجعله سيده في الكتّاب؛ لينتفع به في ضبط تجائره، وكان مولاه، لا يحسن الخط، ولا يعلم شيئاً سوى التجارة.

ولما كبر ياقوت؛ قرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجره، فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي، ويعود إلى الشام.

ثم جرت بينه وبين مولاه، نبوة أوجبت عتقه، فأبعده عنه، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصلت له بالمطالعة فوائد، ثم إن مولاه بعد مديدة، ألوى وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش، ولما عاد، كان مولاه قد مات، فحصل شيئاً مما كان في يده، وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.

وكان متعصباً على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قد طالع شيئاً من كتب الخوارج، فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي.


ينظر: (وفيات الأعيان: ٦/ ١٢٨) و (سير أعلام النبلاء: ٢٢/ ٣١٢).

                        ***

الرابع: جمال الدين، أبو الدر، (أو أبو المجد)، ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي الطواشي البغدادي، تـ٦٨٦، أو ٦٨٩، أو ٦٩٨، وكان يلقب، بـ قبلة الكتاب!

كان من موالي الخليفة المستعصم، وربي في دار الخلافة، ومن هنا جاءت نسبته، بـ المستعصمي!

كان خصيصاً عند أستاذه الخليفة المستعصم بالله العباسى آخر خلفاء بنى العباس ببغداد، رباه وأدبه وتعهده حتى برع فى الأدب، ونظم ونثر  وانتهت إليه الرياسة فى الخط المنسوب.

كان فاضلاً، مليح الخط، مشهوراً بذلك، كتب ختماً حساناً، وكتب الخط البديع الذي شاع ذكره شرقاً وغرباً، حتى اعتُرف بالعجز عن مداناة رتبته، فضلاً عن الوصول إليها، وكتب الناس عليه ببغداد، وله شعر رائق.

من آثاره: رسالة في الخط - أسرار الحكماء، ورسالة في الآداب والحكم والأخبار، ونبذة من أقوال الفضلاء.


ينظر: (النجوم الزاهرة: ٨/ ١٨٧) و (البداية والنهاية: ١٧/ ٧١٦).
وهناك دراسة عنه، للدكتور صلاح الدين المنجد، بعنوان: (ياقوت المستعصمي).


هؤلاء أربعة أعلام، اتفقت أسماؤهم وأعمالهم، وهي: النساخة، وبعد أن عثرتهم..

وجدت العلامة عبد السلام هارون، قد ذكرهم، في (كناشة النوادر: ٩٧)، ثم قال بعد ذكرهم: "فهؤلاء أربعة يواقيت، عرفوا بجودة الخط وجماله في تاريخ الكتابة العربية".

ثم وجدت العلامة خير الدين الزركلي، يذكر هؤلاء الأربعة، في كتابه: (الأعلام: ٨/ ١٣٠) وما بعدها.

ثم وجدت أيضاً العلامة صلاح الدين المنجد، يذكرهم، في رسالته: (ياقوت المستعصمي: ٧).


وقد خلط بينهم كثير، حتى أن أحدهم، كتب على نسخته التي بخط ياقوت الحموي، من (ملاك التأويل) هكذا: "ياقوت الحموي، لا ياقوت المستعصمي"!


ثم في خلال بحثي، وجدت أربعة يواقيت آخرين، غير المذكورين آنفاً، فهاكهم:

                      ***

الخامس: أبو الدر، ياقوت بن عبد الله الرومي، التاجر السفار، مولى عبيد الله بن البخاري، تـ٥٤٣.


قال السمعاني: كان شيخاً، ظاهره الصلاح والسداد، لا بأس به، حدث بمصر ودمشق وبغداد.

حدث عنه: ابن عساكر، وابنه بهاء الدين القاسم وغيرهما.

ينظر: (سير أعلام النبلاء: ٢٠/ ١٧٩).

                        ***

السادس: السابع: ياقوت بن عبد الله الرومي الحمامي، مولى أبي العز بن بكروس، تـ٦٠١.
ذكره الخطيب البغدادي، في (تاريخ بغداد: ١٧/ ١٢٧).

                      ***

السابع: مجاهد الدين، أبو سعيد، ياقوت بن عبد الله الرومي الناصري، أمير الحاج المتولي على خوزستان، تـ٦١٤، بجرجيس.

ينظر: (مجمع الآداب: ٤/ ٣٧٥) للفوطي.

                       ***

الثامن: فخر الدين، أبو الدر، ياقوت بن عبد الله الرومي الصوفي.
ذكره الفوطي، في (مجمع الآداب (٣/ ٢٢٧).(١)

                         ***

وأنت تلحظ، أن هؤلاء الأربعة، كسابقيهم، كل منهم، تسمى، بـ ياقوت بن عبد الله!

وقد تعجبت كثيراً، من هذا التوافق العجيب في الاسم الأول، والثاني، والكنية أحياناً، والملكية، والمهنة ربما.

ثم خفّ.. حينما وجدت العلامة صلاح الدين المنجد، يقول، في رسالته (ياقوت المستعصمي: ١٧): "وياقوت؛ اسم مختص بمن كان من الرقيق"!

وتجلّى.. حين رأيت العلامة إحسان عباس؛ يذكر نتيجة رسالة لياقوت، فيقول -في دراسته عن ياقوت، في المجلد السابع، من (معجم الأدباء: ٢٨٨٢)-: "إنه طفل رومي الجنس، أسر صغيراً، وبيع في بغداد، وأطلق عليه من اشتراه (أو من باعه) اسم"ياقوت" أي: اختار له اسماً جميل الوقع -على عادة العرب، في اختيار أسماء محببة، يدعون بها الأرقاء-(٢)، ولما كان بمنزلة اليتيم الذي لا يعرف اسم أبيه؛ جعل "عبد الله" اسماً لأبيه (أي: أن أباه كان واحداً من عبيدِ الله)!
وذلك هو أكثر حال الأرقاء، الذين كانوا يباعون صغاراً، مثل: ياقوت بن عبد الله الموصلي -معاصر ياقوت الحموي-، وياقوت بن عبد الله -الذي يميز بلقبه وكنيته "مهذب الدين أبو الدر"، وغيرهما كثيرون".

قال أبو نعيم: نعم، زال الإشكال، ولكن يبقى: من أين هذه النتيجة الخطيرة، التي وقع عليها المحقق السبروت- إحسان؟!
أقول: إنه خريت ماهر، وباحث بزل، ومؤرخ أمين، والظن به: أن لا يقول ما قال اعتباطاً، بل بعد سبر وفتش، أو وقوف على نص قديم، فيه تيك النتيجة القاطعة.
والله أعلم.

استدراك: وجدت بعضهم، تسمى، بـ ياقوت دون نسبة إلى اسم ثان، أو نسبة إلى اسم غير عبد الله، وربما تكنى بعضهم، بـ أبي الدر!
لكني تركتهم؛ خشي الإطالة، وفيما ذكرت بلالة!


وعلى كل، فهذه تراجم مختصرة لثمانية أعلام، وقع الخلط بينهم ويقع، فأردت إزالة اللبس، وإزاحة الغبش والنزع.

وأعدّ هذا الصنيع، شكراً لنساخنا الأماثل، وحفاظنا الأفاضل- الذين بذلوا المهج، وقطعوا الثبج؛ لكتْب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفاح عنها.
وهو عمل يسير، ولكنه خير من العدم!

وقد بذلت جهدي في التمييز بينهم، قدر الوكد، ومن وجد خللاً أو خطلاً؛ فليمنن به علي، وليملل به إلي، وله حسن الكفاء.
وحسبي الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، به أستعين، وإليه أستكين.

وكتب: أبو نعيم، وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٧/١٩


ح........
(١)ترجم ابن ناصر الدين، في (توضيح المشتبه: ٢/ ١٣١) لرجل اسمه: أبو بكر محمد بن ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي الصوفي الجازري، مولاهم، سمع من عبد الحق بن عبد الخالق اليوسفي، وغيره، توفي في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وست مئة ببغداد.
فلا أدري، هل هو ابنه، أم لا؟

(٢)قيل لأبي الدقيش الأعرابي: لم تسمون أبناءكم بشرّ الأسماء، نحو "كلب" و "ذيب" وعبيدكم بأحب الأسماء، نحو "مرزوق" و "رباح" ؟!
قال: إنما نسمي أبناءنا للأعداء، وعبيدنا لأنفسنا.
(الروض الأنف: ١/ ٥٠).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق