الثلاثاء، 18 فبراير 2020

الأدب البديع في الاعتذار لذوي العلم والفضل الرفيع!

الأدب البديع في الاعتذار لذوي العلم والفضل الرفيع! 

من جميل ما وقفت عليه، في العذران للسابقين، والغفران للفاضلين.. ما ذكره الإمام أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبو بكر بن محمد سابق الدين خضر الخضيري الأسيوطي، تـ٩١١، في مقدمة رسالته (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)- من الاعتذار للإمام شمس الدين ابن الحمصاني، في قضية خفية، من قضايا تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي مسألة يُغفل عنها؛ فيقع فيها كثير من العوام، بله الأعلام؛ وذلك لغموض أمرها، وخفاء خطرها.

قال الجلال -رحمه الله- "فهذا جزء، سميته: (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء) والسبب في تأليفه: أنه وقع، أن رجلاً خاصم رجلاً، فوقع بينهما سب کثیر، فقذف أحدهما عرض الآخر، فنسبه الآخر إلى رعي المِعزی!
فقال له ذاك: تنسبني إلى رعي المعزی؟ فقال له والد القائل: الأنبياء رعوا المعزى، أو ما من نبي إلا رعى المعزى! -وذلك بسُوق الغزْل بجوار الجامع الطولوني- بحضرة جمع كبير من العوام، فترافعوا إلى الحكام، فبلغ قاضي القضاة المالكي، فقال: لو رفع إلي؛ لضربته بالسياط!
فسئلت: ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء- مستدلاً بهم في هذا المقام؟
فأجبت: بأن هذا المستدل، یعزر التعزير البليغ(١)؛ لأن مقام الأنبياء أجلّ من أن يضرب مثلاً لآحاد الناس،(٢) ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك؛ فبلغني -بعد ذلك-: أنه الشيخ شمس الدين ابن الحمصاني(٣) -إمام الجامع الطولوني، وشيخ القراء، وهو رجل صالح في اعتقادي-، فقلت: مثل هذا الرجل، تُقال عثرته، وتغفر زلته، ولا يعزّر لهفوة صدرت منه، وكتبت ثانياً بذلك.
فبلغني أن رجلاً، استنكر مني هذا الكلام، وقال: إن هذا القائل، لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام، وإن ذلك من المباح المطلق: لا ذنب فيه ولا آثام، واستفتي على ذلك، من لم تبلغه واقعة الحال؛ فخرّجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم؛(٤) لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال.
قال: "فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام، فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام، ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة؛ فيؤديهم، إلى أن يمرقوا من دين الإسلام؛ فوضعت هذه الكراسة نصحاً للدين، وإرشاداً للمسلمين، والسلام"(٥)
ينظر: (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء: ١٥ - ١٦) تحقيق الدكتور خالد عبد الكريم جمعة، وعبد القادر أحمد عبد الله، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ١٤٠٨.
والرسالة موجودة ضمن (الحاوي في الفتاوي: ١/ ٢٧٢)

قال أبو نعيم: والأصل في إقالة عثرات ذوي الهيئات.. هو ما حدثت به عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود).
رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.
والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في (الأحكام الصغرى: ٦٨٧).
وصححه ابن دقيق العيد في (الاقتراح: ٩٩). 

قال الشافعي: "ذوو الهيئات- الذين يقالون عثراتهم.. الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزلّ أحدهم الزلة". 
أخرجه البيهقي في (السنن الكبير: ٨/ ٣٣٤).

وقال العز ابن عبد السلام: "لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام؛ لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى مَن أقيلت عثرته، وسترت زلته". 
(قواعد الأحكام: ١/ ١٥٠)

وقال السبكي: "فإذا كان الرجل ثقة، مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".
(قاعدة في الجرح والتعديل: ٩٣). 

وقال ابن قيم الجوزية: "والكلمة الواحدة، يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه". 
(مدارج السالكين: ٣/ ٥٢١). 

وقال أيضاً: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم، يعبر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة؛ بأنهم ذوو الهيئات، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمطيعين المتقين، والظاهر: أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد؛ فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم، والتفضيل على بني جنسهم؛ فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عصب صبره، وأديل عليه شيطانه.. فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حدّاً من حدود الله، فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف، كما يتعين أخذه من الوضيع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) وقال: (إنما هلك بنوا إسرائيل.. أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف؛ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف؛ أقاموا عليه الحد) وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة، وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد". 
(بدائع الفوائد: ٣/ ١٣٩)

وقال ابن حجر -في فقه حديث (خلأت القصواء)-: "جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها؛ لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء، لولا خارق العادة؛ لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك؛ لعذرهم في ظنهم". 
(فتح الباري: ٥/ ٣٣٥).

قال أبو نعيم: فقد تطابق هنا: القول والعمل، فبينا يقرر أهل السنة، هذه المسألة الذي ورط فيها أقوام، وخلط فيها أفدام.. نجد الجلال السيوطي، يُعملها واقعاً في حياته، ومع أقرانه، رغم ما يكون بين الأقران من النفاسة والأثرة غالباً، إلا أن "الحق أحق أن يتبع".

فحري بأهل العلم وطلابه.. أن يعملوا بما علموا، وإلا كان ذلك وبالاً عليهم "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تعلمون" "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
ولا يحملنكم مخالفة في المذهب أو البلدة أو المنهج؛ أن تعتدوا وتجوروا، "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، "والعاقبة للمتقين" "إن العاقبة للتقوى". 

قلت: وينظر، في هذه البابة.. جزء، (تصنيف الناس بين الظن واليقين) للشيح بكر أبو زيد.
وكتاب (حرمة أهل العلم) للشيخ محمد إسماعيل المقدم. 

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي. 
١٤٤١/٥/٧
ليلة الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة. 
وراجعتها، يوم الأحد، بـ ح ي ١٤٤١/٦/٢٢

 
ح....................... 
(١) وفي نسخة: (تعزير البالغ).

(٢) جاء في (النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات: ١٢/ ٤٠٧) لأبي محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني.
من رواية ابن أبي مريم، في رجل عيّر رجلاً بالفقر، فقال: تعيرني بالفقر، وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم، الغنم؟!
فقال مالك: قد عرّض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه= أرى أن يؤدب.
قال: ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا، أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياء قبلنا.

وقال عمر بن عبد العزيز، لرجل: انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً؟ فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافراً! فقال: جعلت هذا مثلاً؛ فعزله، وقال: لا تكتب لي أبدا.

وجاء بلفظ آخر: عن أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت بعض شيوخنا، يذكر أن عمر بن عبد العزيز، أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلماً، وكان أبوه كافراً، فقال عمر -للذي جاء به-: لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين؟ فقال الكاتب: ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفر أبيه؟! فقال عمر: وقد جعلته مثلاً؛ لا تخط بين يدي بقلم أبدا.
(حلية الأولياء:) ٥/ ٢٨٣)

وجاء بلفظ آخر: عن علي بن أبي جميلة (وفي بعض المصادر: ابن أبي حملة. وفي بعضها: ابن أبي جملة، والله أعلم بالصواب) قال: قال عمر بن عبد العزيز، لسليمان بن سعد (قال أبو الحسين الرازي: وسليمان بن سعد هذا.. من أمراء دمشق، وهو أول من نقل الديوان من اللغة الرومية إلى العربية، وكان مولى من أهل الأردن): بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا، زنديق! قال: هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين، قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم، كافراً، فما ضره! فغضب عمر غضباً شديداً، وقال: ما وجدت له مثلاً، غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فعزله عن الدواوين.
ذكره الهروي في (ذم الكلام: ٥/ ٣٣). 

(٣) محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر، شمس أبو الفتح بن الشرف بن ناصر الدين المنوفي القاهري الشافعي المقري، ويعرف بـ ابن الحمصاني، ولد سنة ٨١١، وتوفي سنة ٨٩٧.
ينظر: (شذرات الذهب: ١٠/ ٤١٠) و (الكواكب السائرة: ٢/ ٦١) 

(٤) قلت: وهو ما ذكره القاضي عياض، في (كتاب الشفاء: ٢/ ٥٣٦)، قال: "الوجه السابع: أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يختلف في جوازه عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية به، ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به، وصبر في ذات الله على شدته- من مقاساة أعدائه، وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معاناة عيشته.. كل ذلك على طريق الرواية، ومذاكرة العلم، ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم- فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة؛ إذ ليس فيه غمص، ولا نقص، ولا إزراء، ولا استخفاف، لا في ظاهر اللفظ، ولا في مقصد اللافظ.. لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم، وفهماء طلبة الدين- ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك من عساه لا يفقه، أو يخشى به فتنته".

أقول: والكلام في مذاكرة العلم، ينزل منزلة غير تقرير الدرس، والحديث بين العوام؛ وذلك لأنه كلام غير مراد ولا مقصود، وإنما يكون لمعرفة كنه الأمر، ومعرفة حقيقته.
والأمثلة في مذاكرة العلم كثيرة، ومنها: ما حدث به وكيع بن الجراح، عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد موته، قال عبد الله البهي: وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه!
وهو خبر منقطع ومنكر.
فكاد أن يقتل -رحمه الله-؛ وذلك لأنه كان في المجلس بعض العوام.. لولا دفاع وشفاعة سفيان بن عيينة!

(٥) وينظر في هذه المسألة: (تاريخ دمشق: ٢٢/ ٣٢١) و(الوافي بالوفيات: ١٥/ ٣٩٠) و(الذخيرة: ١٢/ ٢١) للقرافي، و(أحكام القرآن: ٣/ ٢٥٩) لابن العربي، و(الجامع لأحكام القرآن: ١١/ ٢٥٥) للقرطبي، و(المدخل: ٢/ ١٤) لابن الحاج، و(تاريخ الخميس: ١/ ٢٣٨) للديار بكري، و(تفسير المنار: ٧/ ٤٥٩) لمحمد رشيد رضا، و(التعليق الحاوي لبعض البحوث على شرح الصاوي: ١/ ٩٧) للشيخ محمد بن إبراهيم المبارك، تـ١٤٠٤.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق